بقلم بياتّرو تِشيتاتّي
ترجمة: أحمد حميدة
تكشف لنا دندنة أبيات بورخيس تلك البراءة الأغرّة، والرّصانة المنبهرة.. الحالمة، الخالية من كلّ بهرجة وتفاخر، وذلك الصّفاء الحزين الذي وحده يلهم الشّعر الفلسفي. فلنستكشف معاً ملامح هذا الشاعر الذي كان يبدو وكأنّه يدير ظهره للإلهام الشّعريّ ذاته.
حين كان بورخيس يتأمّل ذاته في مرآة، كان يتملّكه إحساس حادّ بالرّعب. فالنّقاوة العصيّة على الاختراق (المستكنّة في الماء الذي يحاكي الزرقة المتموّجة للسّماء، في السّطح النّاعم والسّاكن للأبنوس، في البياض المرمريّ أو الورديّ الغامض لزهرة) كانت تعكس وجه إنسان لطيف.. كتوم، ولوع «بالسّاعات الرّمليّة ولعب الأوراق، وبصحافة القرن الثّامن عشر ونكهة القهوة ونثر ستيفنسـون».
ووراء ذلك الوجه الدّمث الودود، وكلمات الشّاعر، التي كانت ترافقه مرافقة نغم شارد.. كئيب، كان ينفتح فراغ غائر وسحيق. ومتى تأمّل هذا الإنسان طويلاً في أغوار المرآة، بدا له أنّ كلّ شيء في طريقه إلى زوال، إلى الامّحاء والأفول والاحتجاب، ومن العدم ستنبثق «بعض البرودة وحلم لا يحلُمُه أحد»: صدى مقعّر ومرتجف لشيء ما، قد يكون وجد وحدث منذ قرون خلت.
فكيف له أن يلطّف من الطّعم المرير للوهميّ الذي كان يسكنه، الذي كان يتملّكه ويذبله. من ذلك الفراغ.. من تلك البرودة ومن ذلك العدم، كان «شكسبير القابع بداخله» قد توفّق، دونما عناء أو فرح، في استخلاص عالم بأكمله، عامر بالأبطال والمهرّجين، بالأقزام والسّحرة، بغابات وأنهار رحيبة.. رحابة البحر. غير أنّ بورخيس لم تكن له أيّة صفة من صفات شكسبير، ولذا.. ثبّتَ بصره على وجهه المنعكس، وحدّق فيه بإمعان، فبدا له متشظّياً، مفتّتاً ومتكاثراً إلى ما لا يحصى من الوجوه.. وجوه تتعقّب وجوهاً أخرى، كلّها تشبهه، وكلّها تختلف عنه.
متعة القراءة
وقد عرف أكثر من أيّ كان المتعة الخطِرة للقراءة، ذلك المسعى اللاّنهائيّ الذي يضاعف من عدد الشّخوص والأشياء.. أكثر ممّا قد يتأتّى لتلك المرايا، والذي رسّخ لدى الكاتب الإحساس بأمرين: الطّابع السّاكن تماماً للوجود، وتقلّبه المطلق. فبادر باللّعب، واستعذب التّزييف، متقمّصاً شخصيّة المهرّج، الذي لن ينفكّ عن تحميل وجهه أقنعة جديدة، إذ كان يريد أن يفرّ من ذاته وبلوذ بتباعيض منها.. وكان ذلك يزيده فزعاً ورعباً، لعِبَ لُعبة الغمّيضة مع نفسه عبْر الرموز والظلال، والمجازات والاستعارات، والموسوعات والبيانات والروايات، وكُتباً حقيقيّة وأخرى وهميّة، ومتاهات واقعيّة أو مثاليّة، وفي النهاية.. ذلك الهروب المطوّل الذي سيتمّ دون توقّف نحو التخوم المدوّخة للأبديّة، هناك.. حيث بغدو الهذيان وما يولّده من دوار، منذراً بالتّلف، ولا أحد كان بوسعه القول بشكل قطعيّ، إن كان بورخيس، حين أدرك النّقطة الموتّرة نحوها كلّ خطوطه، قد عثر حقيقة على هويّته.. أم أنّه قد فقدها دون رجعة.
ضبابيّة وامضة
وحين نقرأ القصائد الأخيرة لبورخيس، نشعر بأنّ شيئاً ما قد تغيّر في فنّه. فالأرض لم تعد لترتجّ تحت أقدامنا وأمام أعيننا، ولم نعد لنشاهد في المرايا الظلّ العبثيّ والخاوي، والانسلال اللاّنهائيّ للصّور والأوهام. والجميع يعرف ماذا حدث خلال السّنوات التي تفصل «توهّم» (1944) و«ألاَفْ» (1952) و..«مديح الظلّ» (1952). ضباب عنيدٌ مَحَى خطوط يده، وهجرت النّجوم ظلمة ليله، وغدت الأرض من تحت أقدامه غير آمنة ومرتجفة: لقد أطبق العمى على بورخيس ولفّه بذراعيه. في البداية.. انتابه فزع إنسان تخلّت عنه الحياة، ثمّ أدرك أنّ العتمة لم تطبق عليه تماماً، وأن ظلاماً آخر، دامساً، وئيداً وناعماً، غدا يغيّر الأشياء التي كانت في ما مضى دقيقة وبيّنة، فاترة ومنفصلة، ضبابيّة ووامضة -أصدقاء لم تعد لهم وجوه، صفحات خالية من الحروف، نساء بمشاعر تماثل تلك التي كانت لهنّ في زمن بعيد.
دهالير مريبة
وانتاب بورخيس إحساس بأنّه يعود إلى بيته بعد سنوات من التّيه، فغدت أرضيّة حياته ثابتة ومستقرّة، ومكتبته بالكتب عامرة، وأصبحت مرآة سرّه (وهي ليست تلك المرآة البلّوريّة العقيمة التي تستكنّ فيها الانعكاسات الخادعة) تمدّه بصورة محدّدة وواضحة المعالم عن ذاته. لقد غدا بورخيس يمسك أخيراً بمصيره، وبات بوسعه إدارة ذلك المصير برصانة ممتعة، وهو الذي عاش دوماً في السّراديب الحالكة والدّهالير الغامضة والمريبة للحياة.
حارس الكتب
وإن كان بورخيس في ما مضى مجرّد قارئ للكتب، فها هو قد تحوّل الآن إلى «حارس للكتب». كان يعلم أنّ سعيه غدا خالياً من الأمل، بل بالكاد ممكناً. المجلّدات الكبيرة.. هناك.. في الأعلى ومن ورائه، غدت تحرس الأشياء السّامية: «الحدائق/ المعابد/ الشّعائر التي تشكّل الحكمة...». فلئن أفلتت تلك الكتب من سطوة الزّمن، فإنّه هُوَ.. العجوز الأعمى، لم تعد يداه لتطالا الرّفوف التي يغشاها النّعاس ويغطّيها الغبار، ولعلّه لم يعد ليتعرّف على الرّموز، على المقاطع اللّفظيّة والكلمات والأبيات واللّغة التي يحرسها. غير أنّ هذا الحارس لم يفارقه الأمل.
لقد أصبح ذاكرة العالم... وكما أنّ المجلّدات غدت قصيّة وسريّة مثل النّجوم، فقد كانت أيضاً «قريبة منه ومرئيّة مثل النّجوم». لقد باتت تمنحه جوهرها عوضاً عن مفرداتها. وتلك الحكمة العصيّة على الوصف، التي تَرِدُ على شكل كلمات وأحكام، لا يمتلكها عادة إلاّ أولئك الذّين عمّروا وتألّموا وتخلّوا.
الإضمار والمراوغة
لقد غدا أسلوب بورخيس يطلق وميضاً جديداً.. مختلفاً. ففنّان الكتابة النّثريّة هذا، الفاتر والأنيق، الذي كان يحبّ المفاجأة والاعتباطيّة، ويراوح بين الإضمار والمراوغة والصّيغ الممتعة.. الذكيّة، الخالية من الخجل، أصبح شاعراً كبيراً للرّمز. لم تعد لتستهويه لا أعمال ستيرن ولا «سويداء باريس»، مؤثراً ترك مسائل، كالاختلاف والتنوّع أو المفاجأة، لأقلام أخرى، مبسّطاً العالم ومطهّراً اللّغة، غدا عاشقاً لما كان يعتبره ماضياً، مجرّدَ لعبة، ويستعمل كاستعارة محوريّة، ما كان يرى فيه استعارة غريبة. كان يظنّ أنّه بحاجة إلى التّلميح والإشارة، ولا يتناول مواضيعه إلاّ من جانب واحد وبصورة ملتوية، وعبر ضبابة من السّياقات المتتابعة.
أسرار الوجود
أمّا الآن فقد أصبح يعبّر ببساطة ساحرة عن أسرار الوجود. وفي ضياء غروب وشيك، كان بورخيس لا يني يلطّف ويرقّق كلماته، فهو لم يعد بحاجة إلى أن يستفزّ ويهيّج ذكاءه، لتغمر عفويّة مدهشة (تلك العفويّة القصوى، المحفوفة بالمخاطر والبعيدة المنال، والتي لا يمتلكها غير اللاّعبين الكبار والمخادعين المتندّمين) كلّ مقطع لفظيّ يرسله، وتَحفظ كلّ قصيدة في المُتحف المنعش لذاكرته. وغدا كلّ ما يكتبه منبثقاً من إحساس بالطّمأنينة ومن سكون روحيّ. وغدت دندنة أبياته تكشف عن تلك البراءة الأغرّة، تلك الرّصانة المبهرة والحالمة، الخالية من كلّ بهرجة أو تفاخر، ذلك الصّفاء الحزين الذي وحده يلهم الشّعر الفلسفي. وإن تمادى في اللّعب، فإنّ رصانته باتت تتخفّى وراء غيمة من التكتّم والإِسرار. وإن حاول اللّعب من جديد على أوتار السّخرية، فإنّ تلك السّخرية باتت مجلّلة بالهيبة والوقار. ولعلّه كان يلامس النّغمة الأكثر نعومة، حين كان يستسلم للأناقة الرّخيمة والمنغومة للقافية، التي كان يتوق إليها ويعانقها. كما لو أنّ «حارس الكتب» الأعمى هذا، أضحى بحاجة إلى الإفصاح عن خواطره الأكثر حميميّة في أبيات متخفّفة من الكتاب وأثقاله.
زمن متدفق
العالم كما كان يتمثّله بورخيس، هو عالم متبدل ومنبعث على الدّوام. والزّمن لديه يتدفّق مثل نهر دائم الحضور، كلّ المظاهر فيه تتغيّر، تذوب وتضمحلّ، والوجوه في لجّته لا تني تنسلّ ليحِلّ بعضها في بعض، وتفنى لتنبعث -متماثلة- في وجوه جديدة أخرى، وإنّه لمن العسير التقدّم وسط هذا النّهر. وفي كلّ نهار على الأرض المسوّر بحدّين -الفجر واللّيل- ينطوي التّاريخ. في كلّ لحظة كانت تمرّ، ونعتقد أنّها لنا، تتخفّى بصورة سحريّة لحظات أخرى كثيرة، مضت أو هي قادمة، لحظات قد تكون حقيقيّة أو مثاليّة. وكيف لنا أن نعبُر من لحظة إلى اللّحظة التي تليها، ومع كلّ خطوة نخطوها، تنفتح أمامنا متاهة مرعبة: احتمالات، إمكانات، تفرّعات.. جميعها يدعونا ويزعجنا: دروب عسيرة، معقّدة ومُراوِغة، حُجُرات دائريّة تنفتح على أبواب جديدة أخرى، أروقة متعرّجة، جدران غير متوقّعة، تشابك لحيوات مجهولة.. متعدّدة... كلّها يستدرجنا إلى شطآن الإبداع.
تأمُّل لا نهائيّ
إنّ جوهر فنّ بورخيس يكمن في كونه تأمّلٌ في الوجود من وراء الشّبابيك الموصدة بغاية الدقّة للمرصد الصّغير.. لرجل الأدب الذي كان.. وحين كان يعبر المتاهات المتعرّجة والمخيفة، فإنّ فكره كان يزداد صفاء، وتغدو خطواته أكثر استعجالاً واتّزاناً، كتلك التي تكون لرجل لا يعرف غير الصّلابة العمياء للخطّ المستقيم. وحين يتأمّل في اللاّنهائيّ، فهو يعكسه في نقطة أو في مرآة ضئيلة، ثمّ يقتسِره في الدقّة الأنيقة للحجم الصّغير. وحين يمثّل ذلك الكلّ الذي يجثم بكلكله على لحظات حياتنا، فهو يرسمه بالخطّ البالغ الرقّة الذي كان يُفْردهُ الفنّان الصّينيّ قديماً للقمر، للأشجار وللأسماك. وتكون النّتيجة مُفَارقيّة. لعلّ هذا الشّاعر الذي يدوّن عمله تحت توقيع هيراقليطس المتقلّب «هو بالنّهاية» البرمانيدي الأخير في الأدب الغربي.