ساسي جبيل
ولد المخرج السينمائي الفرنسي - السويسري جان لوك غودار في سويسرا سنة 1930، وتوفي مؤخراً في منزله ببلدة رول السويسرية أيضاً عن عمر ناهز 91 عاماً. ويعد غودار عنواناً لمرحلة مهمة من تاريخ السينما الفرنسية هي عقد الستينيات من القرن الماضي، حيث أدخل أساليب جريئة، لم تكن معتادة، في الأعمال السينمائية، متحدياً بذلك كل القوالب الجاهزة والأنماط السائدة آنذاك، ما اعتبر حينها ثورة في مجال السينما ألهمت العديد من المخرجين اللاحقين، وكونت جيلاً من الفنانين الذين ساروا على خطاه.
وكان غودار أحد أكثر صانعي أفلام الموجة الجديدة رمزية في السينما الفرنسية.
وقد أثر تكوينه النقدي في أسلوبه السينمائي. فطوال مسيرته الفنية اعتبر أحد أكثر المخرجين الذين أعادوا اكتشاف ملَكاتهم، ونجحوا في تغيير وتثوير أساليبهم من جديد، ولذا ظل أحد أبرز المشتغلين على التجريب في السرد الدرامي، وبناء الأعمال السينمائية بشكل مختلف.
ومن أبرز الأعمال السينمائية التي تعد اليوم علامات بارزة في تاريخ السينما الكلاسيكية فيلم «منقطع الأنفاس» و«ازدراء»، و«اللاهث» و«عش حياتك» و«عصابات من الغرباء» و«الفافيل» و«بييرو المجنون» و«اشتراكية» و«وداعاً للغة».
وتجاوزت أعمال هذا الفنان التقاليد الراسخة للسينما الفرنسية، وساعدت في إطلاق طريقة جديدة في الإخراج تعتمد على التصوير بالكاميرا المحمولة والانتقالات الفجائية في المشاهد والحوارات الوجودية، الأمر الذي جعله شخصية سينمائية فاعلة وقادرة على اجتراح النجاح والتغيير في صناعة السينما كفن ورسالة.
كما ساهم غودار أيضاً مع نخبة من المخرجين الذين جايلوه في إطلاق الموجة السينمائية الجديدة في فرنسا، ومن هؤلاء فرانسوا تروفو وإريك رومر وجاك ريڤيت وكلود شابرول وآخرين.
دفاتر السينما
وحين أسس أندريه بازان مجلة «دفاتر السينما» كان غودار من كتاب النقد الأوائل فيها، قبل أن ينتقل إلى الإخراج، وهم أصدقاء من الحركة البوهيمية (الضفة اليسرى لباريس) التي نشأت في خمسينيات القرن الماضي، حيث عرف غودار منذ ذلك الحين بغزارة إنتاجه حيث أخرج عشرات الأفلام القصيرة والطويلة على مدار أكثر من نصف قرن.
وانطلق غودار مع «دفاتر السينما» كناقد سينمائي ليتحول بعد ذلك إلى الإخراج حيث كان دائماً، أو في الغالب، ممثلاً للمثقف العضوي الذي يناهض كافة الانحرافات الاجتماعية والسياسية، ولعل أول نموذج لهذا المنحى شريطه «العسكري الصغير». كما قدم للسينما أيضاً قضايا كونية نظر إليها بالعين السينمائية الفرنسية الرصينة، ولم تنجرف رؤيته خلف أوهام السينما التجارية.
سينما الشعر والفلسفة
وقد عرفت أعماله في الستينيات نجاحاً منقطع النظير ومن بينها «حياتي التي سأعيشها» و«شيئان أو ثلاثة أعرفها بشأنها» و«عطلة نهاية الأسبوع».
ولذا قال عنه الناقد السينمائي آدام سانشاز: «لم يتوقف أبداً عن التشكيك في قوى الصورة وإعادة اختراع السينما. في الأفلام القصيرة والأفلام الروائية ما زلنا ممسكين بنظرة آنا كارينا أمام الكاميرا، حساسين لسحر الفتى الشرير بيلموندو. نحن نهتز، مراراً وتكراراً، لهذه القصص التي تعتبر إنسانية جداً وشاعرية جداً»!
وأضاف سانشاز: «كان يعرف كيف يخلط بين اليأس والأمل والحب والتعب. صور جان لوك غودار الكلمات والمشاعر. وضع على الشاشة صوراً من دون كلمات، وجعلنا نسمع لغة ما وراء الدالِّ، وهي لغة كاذبة وصفيقة وصامتة في بعض الأحيان»!
وكتب أيضاً وزير الثقافة الفرنسي الأسبق جاك لانج عن غودار بعد رحيله مباشرة: «نحن مدينون لغودار بالكثير… لقد ملأ السينما بالشعر والفلسفة. بصيرته الحادة والفريدة جعلتنا نرى ما لا يمكن لأعيننا رؤيته».
المتمرد على السائد
السينمائي الراحل عرف بالمتمرد على التقليد والقوالب الجاهزة والانضباط للسائد بين صناع السينما من مجايليه، حيث حافظ على استقلاليته وأصالته الإبداعية، معتمداً مقولته الشهيرة «هناك الثقافةُ، وهيَ القاعدةُ. وهناك الاستثناء، وهو الفنّ»، معتبراً أن «التلفزيون، يصنعُ النّسيان. والسّينما تصنعُ الذكريات».
حصل غودار على مرتبة الشرف من مهرجان كان السينمائي عن فيلميه الروائيين الأخيرين «وداعا للغة»، الذي أنتج في عام 2014 و«كتاب الصورة»، الذي تم إنتاجه في 2018.
الفن والكتابة
في حوار أجراه معه بيار أسولين لمجلة «لير» الفرنسية عدد مايو 1997 وترجمه الشاعر والروائي التونسي حافظ محفوظ، قال غودار: «أعرف من أنا في العالم: أنا في الهامش»! وتحدث عن الذكريات التي لا يزال يحتفظ بها من مراهقته قائلاً: «لقد قرأت كثيراً، وبعد ذلك انخرطت في الحياة. لكن في فترة كهولتي لم أستطع الإمساك بإحساس اللذة والدهشة الذي كان يوفره لي أندريه جيد. كانت ثمة طبعاً صدمة -داشيال همات وتوماس هاردي في سن العشرين- في خضم العتمة. إن هم إلا السرياليون الذين فتحوا عينيّ عليهما، ولكن بعد ذلك لم أشعر إلا بلذة المشاهدة لا أشعر باللذة الآن إلا عند قراءة الأدب الكلاسيكي».
طريقة للرؤيا
رداً على سؤال: عندما تقرأ رواية هل ترى صوراً ومشاهد؟ قال غودار: «نادراً.. لو كان الأمر كذلك، فسأكون سينمائياً رديئاً. ما الفائدة من رؤية فتاة تبكي على مخدتها عند قراءة رواية (ألبرتين الضائعة)؟ ولو كنت أرى صوراً كما تفهم (مجلة باري ماتش) أكون أيضاً قارئاً رديئاً. ليس ثمة غير (كلود لولوش) بإمكانه رؤية مشاهد عند قراءة (البؤساء) لفيكتور هوغو. لاحظ أنه لم يكتب اسم فيكتور هوغو على معلقة الشريط. كان عليه أن يتوجس غضب الجمهور من فعلته تلك. إنه من المحزن أن نصل إلى هذا الحد»! وخلص غودار إلى القول: «اخترت السينما وأنا أفكر في الكتابة، ما دمت قد بدأت بالكتابة عن أفلام قبل أن أشرع في إخراجها. كتبت مقالات نقدية عديدة في (كراسات السينما) وفي مجلة (فنون)، لكني لم أكن أفكر في أن أقوم بإنتاج أفلام كطريقة للكتابة. كانت رغم كل شيء طريقة للرؤيا».
لقد عرف غودار بمقولة «من يحب الحياة يذهب إلى السينما»، واستطاع خلال مسيرته الطويلة في مجال السينما والصورة أن يترك إرثاً فنياً سينمائياً مهماً، حتى أنه كان قبل رحيله بسنوات مادة لعمل سينمائي ممهور باسم «المهيب» le redoutable أخرجه الفرنسي ميشيل هازانافشيوس متناولاً حياته بين عامي 1967 و1968. وهي فترة حملت العديد من التغييرات السياسية والاجتماعية والثقافية في فرنسا والعالم.