الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رحيل إلى الكون اللامرئي

رحيل إلى الكون اللامرئي
25 أغسطس 2022 02:04

د. عزالدين عناية

كلّما ركنّا إلى ما هو معهود ومألوف، واستبدّت بنا قوالب النظر الجامدة، إلا واستنهَضَنا العلم من غفوتنا ورتابة تفكيرنا. لعلّها المزية الفارقة للعلم التي تضعنا أمام ضرورة مراجَعة يقينياتنا، حتى نؤسّس طروحات جديدة، هي في واقع الأمر قابلة بدورها للنقض، كلما تسرّب لها التلف. وليس الإيمان بالعلم وقدرته الفائقة ريْبيةً مطلقة، تسير نحو عدمية عبثية، بل هو التشبّث بأسمى المعادلات التي تنتهي إليها قدرات الذهن البشري على مستوى نظري، وتَخلُص إليها التجارب على مستوى عملي، ومن ثَمّ يقرّها العقل. وربما خبر نشر الصور الضوئية للتلسكوب الفضائي جيمس ويب التي تُحدّث عن مجاهل الكون، التي ما عادت مجاهل، بل حدوداً غائرة في إدراك الأصول والمنابع، نراجع من خلالها ما بنيناه من نظريات وما صغناه من مقولات. لذلك تمثّل هذه الصور، بالفعل، نقلةً ثوريةً في رؤية الكون وفهمه، كما يقدّر فيزيائيو الفضاء، أتاحها لنا التلسكوب الفارق بصوره الضوئية الملوَّنة والخارقة.
فتلك الصور، في حدّ ذاتها، هي خرائط جديدة نصوغ في ضوئها هندسة مغايرة لتصوراتنا، ولإدراك ذواتنا والأشياء المحيطة بنا، ناهيك عن رحيلنا للكون اللامرئي الذي لا يمثّل كوكبنا الأرضي سوى جزء يسير منه. وبناء على تلك الكشوفات الجديدة نعود مجدّداً إلى جدلية التخاطب والتواصل بين العلم ومقرراته من جهة، وبين تصوّراتنا وتمثلاتنا عن عالمنا الأرضي، الذي هو جزء يسير من هذا الكون الفسيح من جهة أخرى. ولعلّ جدلية التواصل المشار إليها، هي الميزة الأهمّ التي أضحت تميّز الإنسان الحديث في مسعاه إلى «عَلْمَوَة» فكره وفعله وفهمه لِما حوله. فضمن سياق تحولات الذهن البشري، بات البحث عن التطابق بين منطق التأمل النظري ومنطق العلم الصحيح ديدن الإنسان الحديث منذ ظهور المعارف الوضعية، لتتولّدَ رغبة جامحة في إنشاء ما يشبه الفيزياء الاجتماعية، كما سماها أوغست كونت. تتكفّل بدراسة الشأن الاجتماعي وفهم المسار الوجودي، في مسعى للتخلص من الوعي المتقادم بأصنافه، الأسطوري والسحري والخرافي، الطاغية على جوانب كثيرة من حياتنا.

مراجعات هائلة
تضعنا الصور العلمية الآتية من لحظة النشوء البعيدة، في الزمان والمكان، أمام مراجعات هائلة، وأمام مستجدات متلاحقة. لم تعد الكلمة الفصل، في ظل التطور العلمي الخارق، للتأمل الهائم والتفكير المجرد، بل لمنجزات العلم ومكتشفاته، وهو تحول جوهري في سياق التفكير في الكون يدفع إلى إعطاء فلسفة العلوم الحظوة اللازمة. ولإدراك ثورية المنجَز العلمي حري أن نعي أن رقيّ العقل البشري إلى مستوى وضعي، قد رافقته تحولات هائلة في إدراك الإنسان لذاته ولعالمه، قطعَ فيها شوطاً بعيداً في التخلص من الوعي المهترئ. وفي ظلّ التراكم المعرفي الحاصل، لا يفوتنا أن نستحضر أنّ سؤال نشأة الكون قد خامر المخيال البشري، منذ عهود سحيقة، فهو سؤال جوهري لدى البشر، قاربه الإنسان عبر الأساطير النشكونية، أو بعبارة أوضح أساطير الأصول، التي هي في واقع الأمر إشباع لحاجة تفسير الكون، رافقت العقل البشري عبر مسيرته التاريخية، ولم تخل من تطلع حازم إلى فهم الكون وإخراجه من العتمة التي تلفّه. وأنّ ذلك التحفز البدئي لدى الإنسان، وإن كان مؤسطَراً، في البدء، فقد ظلّ يرنو إلى تقديم تصوّر شبه نسقي للكون، فضلاً عن تحليل العلاقات الرابطة بين عناصره وتحديد موضع الإنسان فيه. كانت مغامرة العقل البشري في بداياتها الأولى مفعَمة بالأسطورة إلى حدّ التخمة، وقد أتى ذلك في محاولة لتفسير ظهور العالم، والإجابة عن تساؤلات على غرار لماذا خرج من ذلك العماء؟ وما هو المبدأ الفاعل وراء ذلك التحول؟

سرّ الضوء
لكن لسائل أن يسأل ما الذي يمثّله هذا السّنا المنبعث، أو هذا الضياء الملتقط من عوالم نائية في الزمان والمكان؟ نقول ذلك دون تطرق إلى الفروقات بين النور والضياء في فصيح اللغة مصداقاً لقوله تعالى: «هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا». إذ لمّا نلجأ إلى القواميس العلمية لمعرفة سرّ الضوء، وحتى نظفر بتعريف جلي، نخلص في نهاية المطاف إلى أنّ الضوء طاقة. ولكننا في واقع الأمر لا نظفر بالإجابة الشافية الكافية، ولكن تم ترحيلنا إلى مستوى آخر من الغموض قد نتساءل معه وما الطاقة؟ التي هي سرّ من أسرار الكون مثل الضوء. ولعلّ الشيء الواضح أن الضوء سرّ تكتّم عليه الكون وفسّره العلماء بالموجة الإلكترومغناطيسية، بما يشبه الجزيئات التي تسمى الفوتون أو «الضوي» بحسب قواميسنا العربية. ومن ثَمّ شعاع الضوء هو في واقع الأمر موجة متكونة من ضويات (فوتون)، ينبع من بؤرة، تماثل العين الدافقة (ضوء الشمس) ليظلّ مترحلاً ما لم يجد ما يمتصّه أو يتشرّبه، أو لنقل «يستخدمه». لكن الملاحظ في اللغة العلمية استعمال كلمة «إشعاع» في الغالب بدل «الضوء» سواء في الحديث عن الضوء الذي في وسع أعيننا رصده، أو ذاك الذي يتعذّر رصده بالعين مثل الأشعة السينية، وموجات الراديو، وهلمجرا. وليس فقط سر الضوء في غرابة مكوَّنه، بل في حركته الفائقة أيضاً، فحين ينطلق من بؤرته ويشع فإنّ سرعته تفوق الخيال، ما يساوي 300.000 كم في الثانية، وبما يعني أن الشعاع قادر على أن يطوف بالأرض سبعاً في الثانية الواحدة.

مفهوم الزمن  
في تعريف شائع لمفهوم الزمن لدى القديس أوغسطين في كتاب «الاعترافات» يقول: «إذا لم يسألني أحد [ما الزمن؟] فأنا أعلم، وإذا رغبت في شرحه لسائل ما، فأنا لا أعلم»، هكذا الضوء.
من جانب آخر، يقول العلم إن عالمنا «وُلِد» منذ 13.8 مليار سنة، بعيد «الانفجار الكبير» (Big Bang)، لكن الأمر مجرد فرضية لأن عقلنا العلمي توقفت معرفته هناك. افترض الانفجار أو لنقل التمدد إلى حين ميلاد كوكبنا الأرضي البالغ من العمر 4.5 مليار سنة، ولتولَد الحياة على الأرض منذ 3.5 مليار سنة، وليبلغ عُمر الحضارة البشرية على الأرض القصير 10 آلاف سنة فقط.
لماذا هذا الحديث العلمي عن الضوء والكون وما الذي تمثله الصور الضوئية التي صنّفها فيزيائيو الفضاء في عداد التحولات المبهرة؟ أردنا من وراء ذلك أن نقترب قدر الإمكان من التوصيف العلمي للأشياء لنعي تداعيات المنجز الجديد (الصور الضوئية) على حياتنا، ونظرتنا، وفهمنا للكون ومن ثَمّ رؤيتنا للوجود. وبالفعل هي صور ضوئية تلك التي هزت الأوساط العلمية، وصفها البعض بأنها بداية عصر جديد في ملاحظة الكون، وفي الاكتشافات العلمية، في غاية الإثارة. إذ يستطيع التلسكوب ويب التقاط ضوء تطلّب مليارات السنوات ليصل إلى التلسكوب، ولذلك مثلت الصور رصداً لمشارف الكون. وبالفعل تكمن أهمية الصورة الضوئية الملونة في أنها تروي تاريخ الكون الخفي، وتتيح للبشرية أن تُضاعف أحلامها وتطلعاتها. وبلغة العقل الفلسفي يضعنا التلسكوب ويب قاب قوسين أو أدنى من إدراك سؤال كيف؟ كيف نشأ الكون؟ وكيف يشتغل؟ وكيف تتشكل الكواكب؟ وعلى هذا الأساس نعي لماذا الفيزياء هي أم العلوم؟ فيزياء الفضاء اليوم تبشّر بمعرفة أخرى قد نبني في ضوئها بناء معرفياً مستجداً بأنفسنا وبعالمنا والكون بأسره.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©