ساسي جبيل
ظلت إشكاليّة النصّ المفتوح تتخّذ منعرجات متجدّدة في التّأويل والتفسير، منذ أن خرجت على لسان المفكّر والرّوائي الإيطالي «أمبيرتو إيكو» عند تحليله لنصوص سرديّة شعريّة لـ«جيمس جويس»، فشكّلت بذلك دائرةً جديدة في تداوليّة النصّ عموماً، في توصيفه أوّلاً وفي السّعي إلى فهمه والغوص في منحنياته الدلالية ثانياً.
وتستمر الأسئلة حول النّشأة والمفهوم في بيئته الحاضنة في أوروبا خلال منتصف ستّينيات القرن الماضي، مع الكتابات الموصوفة بأنها نصوص مفتوحة، التي عرفت نسقاً تصاعديّاً استوجب دافعيّة أخرى في التّناول التّداولي، وللوقوف على المقتضيات الجديدة في الأداء التّعبيري ليس الأدبيّ فقط بل ما هيّأت له صيغ التعبير الجمالي الأخرى العديدة في نواحٍ موسيقيّة أو تشكيليّة أو فنيّة متنوّعة عموماً بعد مسيرة من الميزات الفنية والتعبيرية في كل ميدان، وهكذا انبرت التّجارب تتدافع من أجل التّجريب، ما أدى لتحريك صيغ تعبير كانت مغمورة لتتماس أو تتواشج، حتى لو كان بعضها قد يبدو في صيغ تعبير غرائبيّة عجائبيّة غير سهلة التقبّل، ولكنّها تمنح العمل الجمالي رسالة وروحاً تستلزم عيناً ناقدة تنفذ إلى هذه الفلسفة النّاشئة في ابتكارات الأعمال الفنيّة. وحول اشكاليات النص المفتوح استطلع «الاتحاد الثقافي» آراء عدد من النقاد البارزين:
المعاني المنوطة بعهدة المؤلف
الأكاديمي التونسي وأستاذ الجماليات بجامعة القيروان د. المعزّ الوهايبي قال: لئن كان قد أضحى بمثابة الحكم الذي عفت عليه المناهج ذاك القولُ بأنّ كلّ نصّ هو كلٌّ منسجمٌ تحكمه قوانين داخليّة لا تحول، دون استحضار معطيات توجَد خارجه ما دام يحيل بطبيعته إلى مراجع مستمدّة من العالَم المحيط مهما تكن مغرقة في الخيال، فإنّ القول، في المقابل، بأنّ النّصّ، مهما يكن جنسه، هو نصّ مفتوح ما دام محلّ تأويلات متنوّعة تُبين عن المسكوت عنه الثّاوي بين تضاعيفه أو تستكمل تعمير خاناته الفارغة، إنّما هو قول مُشكِل.
موت المؤلّف
وواحد من أوجه المشكل، وهي لا محالة عديدة، يتمثّل في أنّ معاني النّصّ تُناط، حسب الموقف الأوّل، بعهدة المؤلّف، في حين ينسبها الموقف الثاني، بمقدار كبير، إلى جدارة القارئ. ولئن كانت مقولة «موت المؤلّف»، التي ترمي إلى نسف الموقف الأوّل، لم تُحسم تماماً بعدُ، ففكرة التّناصّ التي يسّرت لبعضهم استخراج شهادة وفاة المؤلّف يجري تنسيبها بالانتباه إلى أنّ هذا الأخير ليس بالضّرورة شخصيّة متكاملة الأبعاد، وإنّما هو أقنعة يتعاقب على ارتدائها اطّراداً بحسب ما تتوسّع قراءاته وتتنوّع. ولنا طبعاً أن نتمادى في بسط أوجه أخرى من المشكل قد تكون على رأسها مسألة العلاقة بين النّصّ المقدّس والتّأويل، وما إذا كان التّعاطي معه بصفة النّصّ المفتوح وارداً! بيد أنّنا نكتفي في هذه اللحظة بإثارة المسألة من جهة الأدب، وإن باقتضاب.
الإحالة الذاتيّة
إلاّ أنّ الموقف الثاني الذي يتوسّل، من بين ما يتوسّل به، كون النّصّ مهْما يكن مُحكم البناء لا يتميّز فقط بالإحالة الذاتيّة (autoréférence) وإنّما هو مشروط، بموجب كونه منذوراً للتّواصل مع آخرين وللقراءة من قبَلهم بالإحالة الخارجيّة، هذا الموقف يبيح للقارئ أن يفتح النّصّ على مصراعيه طلباً لتحيين دلالاته وإثراء قصديّته التي هي رهن علاقة النّصّ بقارئه لا بسلطة المؤلّف. ومن ثمّ فإنّ النّصّ لا يولَد مفتوحاً، وإنّما هو إمكان مشفَّر يحتاج، حسب أمبيرتو أيكو، إلى قارئ نموذجيّ يتولّى فتحه ليبقيه حيّاً، ذاك القارئ الذي أوكل إليه بيرس مهمّة إعادة استنبات العلامة في محيطها. أمّا كونه مفتوحاً فذاك تشريع لقابليّة التّأويل على نحو متعدّد. وهذا أيضاً محلّ تلبيس تنكبُّ عليه مقاربات كثيرة تتقصّى بعدُ عن مقتضيات التّأويل وحدوده.
شراكة في النص
وخلص الوهايبي إلى القول: ربّما يكون من الوجيه ألاّ نغفل، عن ملاحظة أنّ فكرة النّصّ المفتوح، على وجاهتها من حيث ثراء المقاربات النّقديّة، قد أسهمت في ظهور شريحة جديدة من المؤلّفين، هم القرّاء «المحترفون» الذين رأوا في الاعتراف لهم بمسؤوليّة الشّراكة في النّصّ رخصة للإقدام على الكتابة!
النص وثقافة ما بعد الحداثة
أما الكاتب والناقد المغربي عزيز العرباوي فتساءل: هل يمكننا أن نتحدث عن النص المفتوح باعتباره، مثلاً، مقابلاً للنص المغلق؟ أم أن الأمر غير ذلك؟ وما دام أن هذا المفهوم يجد أساسه المفهومي في الثقافة والنقد الغربييْن، فإنه يجد إحالة عليه في الثقافة العربية القديمة والحديثة وفق رؤية مختلفة عما جاءت به الثقافة الغربية. وعلى رغم أن الأمر هنا يتعلق بنص مفتوح على آفاق إبداعية ونهاية مفتوحة، أي له بداية وليست نهاية من خلال الفكرة الأولية حول المفهوم، فإن الأمر يتعلق بأكثر من ذلك ويتجاوز هذه النظرة إلى ما هو أكثر تحديداً، بل إن الأمر يتجاوز فكرة أن النص المفتوح تكون نهايته مثل بدايته.
ما بعد الحداثة
ويعد النص المفتوح شكلاً من أشكال الكتابة الحديثة والجديدة بل إنه أثرٌ من ثقافة ما بعد الحداثة التي تأسست في الساحة الثقافية الغربية والمتمثلة في كتابات جاك دريدا، وميشيل فوكو، وجاك لاكان، ورولان بارت... غير أنّه من جذور غربية انطلقت مع الملاحم الأسطورية والكتابات والمخطوطات القديمة ذات البعد الأسطوري والعجائبي والديني والصوفي، حيث تمثل الأساطير والحكايات والفولكلوريات مصدره الأساس، لأنه وجد حاضنته الحقيقية، كما يرى محمد مندور، مع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي جعل من «أناياز» و«ضيقة هذه المراكب» أنموذجين مهمين للنص المفتوح على رغم أن «ضيقة هذه المراكب» تعتبر النشيد التاسع والأخير من عمل شعري طويل، وهو بحد ذاته نص مفتوح نموذجي.
ويعد مفهوم النص المفتوح عند إمبيرتو إيكو بمثابة النص المكتوب عند رولان بارت، كما أورد إيكو هذين المصطلحين وفصّل فيهما بشكل واضح وذلك في كتابه «دور القارئ-1981» حرصاً منه على إشاعة ضرورة القراءة وأهميتها الأساسية في الإمتاع، وتأكيداً لدور القارئ كما هو الحال مع دعاة استجابة القارئ ونظرية الاستقبال.
التناص والإنتاجية
بل وُجد أيضاً من النقاد الغربيين من اهتم بهذا المفهوم، منهم مثلاً الفرنسيان ميشال أريفي، وجوليا كرستيفيا، حيث تحدثت هذه الأخيرة عن النص المغلق سنة 1967، إضافة إلى تطرقها إلى مفاهيم أخرى من قبيل: التناص والإنتاجية، وغيرها من المفاهيم النقدية، إضافة إلى ما تطرقت إليه الكاتبة «مرجريت يورسونار» في كتابها القيّم «الذكريات الورعة» الذي تمّ تركيب نصه على أساس الدائرية ليأخذنا من آخر صفحة منه إلى نقطة البداية فيه، فالنص المفتوح، كما جاء في مقالة للناقدة رباب هاشم حسين -منشور في موقع «الحداثة وما بعد بعْد الحداثة»- هو ظاهرة أدبية حداثية ذات صلة بالتراث وكان وجودها في التراث «على شكل شذرات متفرقة في تاريخ الشعر، نُثرت من قبل هؤلاء الشعراء في زمن لم يكن المكان واسعاً لها، ولكنهم نثروها من باب التجريب والمغامرة، أو من باب انتمائهم لرؤاهم التي ترى ما لا يراه الآخرون ركضاً وراء التغريب والتفرد والحداثة والتأثير بالمتلقي».
نهاية مفتوحة
وفي الأخير، إن ما يمكننا قوله حول النص المفتوح هو كونه نصاً يحتمل فكرة أن تكون بدايته كنهايته، أي أن تكون نهايته منطلقاً جديداً، حيث نجد هذا الأمر منتشراً في القصة القصيرة والرواية بالخصوص، وهي الجنس الأدبي الذي يحتمل هذه المسألة، حيث ينفتح النص الروائي على نهاية مفتوحة على كل التأويلات والاحتمالات والفهوم والأفكار والمنطلقات التي تعود بنا إلى ما جاء في بدايته.
قراءة مشرعة على تأويلات مفرطة
الناقد المغربي والباحث في الجماليات عز الدين بوركة يرى أن الأثر المفتوح أثر مُشرع على تأويلات مفرطة، حيث يقيم علاقة بين المؤلف والقارئ المؤوِّل، يقدمه الأول جاهزاً بينما يراه الثاني غير مكتمل ولابد له من تأويل.. وبالتالي فهو عمل غير تابع للمعنى المعطى مسبقاً، إنه رهين النسبية الإنشتاينية وخاضع للاحتمالات الكمية.. لا يكفيه التأويل الواحد، لأنه كما يقول أمبيرتو إيكو «مفتوح على التفاعلات والتأويلات الجديدة باستمرار».
علاقة تأويل
وهكذا فالأثر المفتوح لا يتعلق بحقبة أدبية أو فنية أو فكرية معينة، إنه منجز خارج محددات التاريخ والزمن، يمكن قراءته بطرق مختلفة تبعاً لزمن القراءة. فألف ليلة وليلة -مثلاً- يمكن اعتبارها نصاً مشرعاً على كل احتمالات التأويل، نصاً من الأزمنة القديمة ولكن يمكن وصفه أيضاً بأنه أثر مفتوح، كل يقرأ لياليه كيفما يشاء.. يقيم معه علاقة تأويل شخصية. إنه «مفتوح من دون قصد على التفاعل الحر للقارئ».
وبهذه الكيفية، يرتبط الأثر المفتوح بالذات القارئة/ المؤولة، فمهمة المؤلف تنتهي مع بداية القراءة، فيغدو الأثر ملكاً للقارئ، بل للقراء اللامتناهين، فيصير متحولاً وقابلاً للتغيير. فهو منذور، بهذا المعنى، للحركة والتبدل المستمر.
توجهات متنوعة
ولا تتعلق هذه الديناميكية للأثر المفتوح فقط بقابليته للتأويل اللامحدود، بل أيضاً بكونه نسيجاً من آثار وتوجهات متنوعة، متداخلة ومتفاعلة في ما بينها، في نوع من الشعرية البديلة والمعاصرة، وهو ما يستدعي التأمل المكثف، والذهاب والإياب بين مختلف مركباته التي تحيلنا على ميادين إنسانية متنوعة. مما يجعله يؤسس لإشكاليات جديدة تقترب من مظاهر العالم المعاصر.. ومفتوحة على كل الأزمنة ومن ذلك مثلاً «المسخ» لكافكا و«الكوميديا الإلهية» لدانتي و«رسالة الغفران» للمعري و«1984» لأورويل و«كتابات» بلانشو و«شذرات» نيتشه الفلسفية و«اسم الوردة» لإيكو و«أساطير» بارت و«الزمن الضائع» لبروست...الخ، وغيرها من النصوص والمفاهيم والأعمال والمنجزات والنظريات، التي يمكن تصنيفها مجازفة تحت مسمى ما بعد الحداثة رغم اختلاف أزمنة كتابتها، إذ لا تؤمن الأعمال ما بعد الحداثية بالاستقرار واليقين والحقيقة. إنها ضد كل هذه المفاهيم، من حيث إنها تنتصر للفوضى والنسبية واللعب والهزل.
التشظي والتفكيك
إنها إذن في «المتاهة الهرمسية» (نسبة إلى هرمس «الإله» في الأساطير اليونانية)، بتعبير أمبرتو إيكو. إذ مع التأويل والتأويل المضاعف والمفرط، يصير النص مفعماً بحيَوات لامتناهية، قابلاً للتجديد «المفرط» في التأويل، غير خاضع لأي سلطة فهم وتفسير أو حقيقة معطاة سابقاً، ما يدخله في نوع من اللعب و«العبثية»، غير مقيم في أي معنى جاهز، محكوم بالإحالة ومبني على أنقاض نصوص أخرى سفلى تحت بياض الورق، ومنذور للتشظي والتفكيك، يحضر فيه الكاتب ويغيب، فتمحي ذاتيته ويصير «مسرحاً عبثياً»، يحق للناقد أن يقيم عليه «نصاً» (قرائياً) موازياً. كأنهما انعكاسان مختلفان لجسد واحد في المرآة. فلم تعد هناك فواصل بين الكاتب والقارئ والنص.