إميل أمين
خلال شهر مارس الماضي، وفيما يشبه تفاعلاً إيطالياً مع الأزمة الأوكرانية، قررت إحدى الجامعات الإيطالية في مدينة ميلانو إلغاء أحد مناهجها الدراسية عن عملاق الأدب الروسي دوستويفسكي.
الخبر دعاني للتفكر والتدبر في أحوال الأدباء الروس عبر التاريخ، والتساؤل هل أصابتهم «حُرفة الأدب»، والتي تعني البلاء الملازم أحياناً للمشتغلين في هذه المهنة الرفيعة والراقية، والتي تفتح القلوب والعقول على آلام الإنسانية وأحلام البشر؟.
دعونا نطوف تاريخياً على حال نحو ستة من أدباء روسيا العظام، علّنا نفك بعض طلاسم هذا المصير الذي لازم هؤلاء الأدباء العباقرة، وهل كان الأمر حظاً أم متلازمة أدب، لا أكثر؟..
الكسندر بوشكين (1799-1837)
الكسندر سيرغيفتش بوشكين، الشاعر والمسرحي والروائي، الذي وُلد لعائلة روسية نبيلة في موسكو، وكانت والدته من جذور إفريقية.. وأول قصيد لبوشكين حملت عنوان «أغنية الحرية»، وأدت إلى نفيه من قبل الإمبراطور إلكسندر الأول، ويوصف بوشكين من قبل الكثيرين على أنه الممثل المركزي للرومانسية في الأدب الروسي.
ولكن قدّر لهذا المبدع أن يموت في سن الـ 37؟
وتبدو المأساة من خلال إهانة جاءت من طرف نسيبه «جورج دانتس»، ولهذا أعلن بوشكين تحديه في مبارزة بالمسدسات، وكان هذا النوع من النزال منتشراً في روسيا في ذلك الوقت، ومن سوء طالع بوشكين أنه قد أصيب برصاصة اخترقت فخذه ومعدته ليسقط بجروح قاتلة، أخفق الأطباء في مداواتها، وكانت آخر كلماته.. «انتهت الحياة.. من الصعب التنفس.. إنني أنسحق».
المثير أن القدر أنقذ بوشكين نحو عشرين مرة في منازلات سابقة، وحين رفض الصلح مع غريمه في المرة الحادية والعشرين، لقي حتفه مأسوفاً على نضارة شبابه.
ميخائيل ليرمنتوف (1814-1841)
أديب روسي رومنطيقي، يدعى أحياناً «شاعر القوقاز»، ويعتبر أحد أهم الشعراء الروس بعد وفاة الكسندر بوشكين، وقد ولد في موسكو لعائلة من طبقة النبلاء.. وبدا وكأن مصرع الشاعر الروسي العظيم بوشكين في مبارزة غامضة عام 1837، قد ترك أثراً كبيراً في حياته، فكتب قصيدة «موت شاعر» التي رددها المعاصرون.
وأدى احتجاج ليرمنتوف على مقتل بوشكين إلى إثارة غضب السلطات التي قررت اعتقاله ونفيه إلى القوقاز.. حيث استطاع كارهوه أن يدفعوه هو أيضاً للمشاركة في مبارزة مع ابن السفير الفرنسي «بارانت»، ونفي بسببها إلى القوقاز من جديد، غير أن القدر قاده لمشاجرة مع أحد ضباط الجيش الروسي، ليخوض معه أيضاً مبارزة أخرى انتهت بوفاته في السابعة والعشرين من عمره، لتبكيه الأمة الروسية والعالم معاً.
فيودور دوستويفسكي (1821-1881)
غني عن التعريف، عبقري روسيا الكبير، صاحب «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كارامازوف»، ولد في موسكو وعاش معظم حياته في سان بطرسبرغ، التي تدور معظم أحداث رواياته فيها في زمن روسيا القيصرية.. جسدت أعماله الصراع النفسي الذي عانى منه المجتمع الروسي خلال حقبة مضطربة سياسياً واجتماعياً في القرن التاسع عشر.
وفي عمر الثامنة والعشرين تم القبض على دوستويفسكي لمشاركته في أنشطة ثورية، وكان ذلك عام 1849، حيث حكم عليه بالإعدام في 16 نوفمبر من ذلك العام.
وفي 22 ديسمبر تم إخراج دوستويفسكي، والعديد من السجناء الآخرين إلى ساحة سيميونوفسكي، حيث تمت قراءة طقوسهم الأخيرة، وبينما رفع أفراد فرقة الإعدام بنادقهم استعداداً للتنفيذ، تم تسليم رسالة في اللحظة الأخيرة، حيث تم منح الضحايا مهلة.
ويقال إن تأجيل الحكم كان قد منح بالفعل في وقت أبكر بكثير، وإن الإعدام الوهمي كان جزءاً من العقوبة المخففة الممنوحة للسجناء.
ترك الحدث تأثيراً عميقاً على حياة وكتابات دوستويفسكي، وقد كانت التهمة الموجهة إليه كتابة روايتين، «الفقراء» و«المزدوج»، اللتين لفتتا انتباه الحكومة القيصرية الصارمة إلى خطورة الأدب في ذلك الزمن على أفكار الروس.
وتم حظر أعمال دوستويفسكي، وفرض حظر عليها في الفترة الستالينية، ولاسيما أن رواياته كانت تصور واقع الروح البشرية والاختلافات بين الأفراد.. عاش دوستويفسكي، وكأنه ميت، ومع ذلك ظلت أفكاره تهتم بقضايا الحرية والغوص في نزعات النفس البشرية.
ليف تولستوي (1828-1910)
الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي، تعتبر أعماله درّة تاج الأدب الروسي، روائي عملاق، ومصلح اجتماعي، داعية سلام ومفكر أخلاقي، وعضو مؤثر في أسرة تولستوي الأرستقراطية الروسية العريقة.
وتولستوي صاحب الأراضي الواسعة الشاسعة، وهو مؤلف «الحرب والسلام»، و«آنا كارنينا»، الروايتان اللتان تتربعان على قمة الأدب الواقعي، من خلال ما ترسمانه من صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية.. وكفيلسوف أخلاقي اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف وتبلور ذلك في كتاب «مملكة الرب في داخلك»، العمل الذي أثر في العديد من مشاهير القرن العشرين مثل مهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينج.
وقبل وفاته بتسعة أيام، ترك تولستوي منزله في مقاطعته الشهيرة في «ياسينا بوليانا»، سراً عند الفجر بصحبة سكتيره الخاص.. وكان واضحاً أن تولستوي قد اتخذ قراره النهائي بأن ينفصل عن حياته العائلية ويرتاح من شجار زوجته الدائم مع سكرتيره.
وفي الليلة التي غادر فيها المنزل كتب يقول: «لقد فعلت ما يفعله الناس في سني.. قررت أن أترك الحياة الدنيوية، وأقضي أيامي الأخيرة في عزلة وهدوء».
وعن عمر يناهز الثانية والثمانين رحل تولستوي بعد أن عانى من التهاب رئوي، وقد سار وراءه نحو عشرة آلاف من الكتاب والفنانين والأتباع والفلاحين، فيما قاطعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية جنازته بعد أن طردته منها، بسبب تصريحه بأن العلاقة مع الرب لا تحتاج إلى وسيط.
ومأساة تولستوي الكبرى جرت بعد رحيله، ففي 1899 أصدر المجمع المقدس للكنيسة الروسية قراراً بحظر كل صلاة لتذكر تولستوي أو الترحم عليه بعد وفاته باعتباره مرتداً!
أنطون تشيخوف (1860-1904)
أنطون بافلوفيتش تشيخوف، مسرحي ومؤلف قصص روسي كبير، ينظر إليه على أنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس..
كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تاثير عظيم على دراما القرن العشرين.
وفي مارس من 1879 تعرض تشيخوف لنزيف كبير في الرئتين خلال زيارة لموسكو، وتبين لاحقاً أنه مصاب بمرض السل في الجزء العلوي من رئتيه، وفي مايو 1904 بدا واضحاً أن السل قد تمكن من رئتيه وأن جميع من رأوه شعروا بداخلهم أن نهايته ليست ببعيدة.
وذات نهار استيقظ تشيخوف من غمرات مرضه وتكلم بصوت عالٍ باللغة الألمانية قائلا «أنا على شرفة الموت».. فبادر الطبيب المرافق له بتهدئته وحقنه بمادة الكافور.. قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وفي عام 2018 اكتشف علماء بريطانيون، من خلال بقع الدم على ثوب تشيخوف الأخير، أنه راح ضحية نزيف في المخ وليس الدرن، أو نوبة قلبية، ليكتب التاريخ مأساة مبدع روسي آخر.
مكسيم غوركي (1868- 1936)
أليكس مكسيموفيتش بيشكوف، أديب وناشط سياسي ماركسي، مؤسس مدرسة الواقعية الاشتراكية التي تجسد النظرة الماركسية للأدب.. حُرفة غوركي بدأت مبكراً فقد أصبح يتيم الأبوين وهو في التاسعة من عمره، وقد اختار مفردة «غوركي» التي تعني «المر» لتميز اسمه في دلالة على الواقع المرير الذي كان يعيشه الشعب الروسي.
عام 1935 توفي ابنه مكسيم بيشكوف، ما تسبب له بجرح غائر في قلبه، ثم توفي هو عام 1936 في موسكو، وسط شكوك بأنهما ماتا مسمومين بفعل حكومة ستالين، أو في أضعف الأحوال تم علاجه بطريقة خاطئة أدت إلى وفاته، وقد تم دفنه على خلاف وصيته بعيداً عن ضريح ابنه.
وأخيراً.. هل من خلاصة؟
مهما يكن من المآسي الحياتية لهؤلاء المبدعين، وعذاباتهم الأرضية، الإ أن العزاء الأكبر يبقى من خلال أسمائهم اللامعة التي ظلت تضيء النور وتشق الديجور للنفس الإنسانية عبر القرون.