إيهاب الملاح (القاهرة)
أحمد حسن الزيات (1885 - 1968) صاحب البيان المعجب والأسلوب المشرق، والأهم صاحب «الرسالة» أشهر مجلة ثقافية عرفها أدبنا العربي الحديث في القرن العشرين، لم يترك الزيات كتباً كثيرة، شأن أقرانه من رواد وأعلام تلك الفترة لكنه ترك لنا، وللتاريخ والأدب، افتتاحياته المدهشة لأعداد مجلة «الرسالة» التي ظلَّت تصدر طوال ما يقرب من عشرين سنة، وقد جمع الزيات هذه الافتتاحيات والمقالات التي كتبها طوال هذه الفترة (1933 - 1953) في عدة مجلدات بعنوان «من وحي الرسالة» من أروع ما سجله البيان العربي في نثرنا الحديث.
شهر رمضان عند الزيات يُزار ولا يزور، فالزيات هو الذي يذهب لزيارته في أماكنه الأصيلة ومجاليه الزاهية، ومن لم يزر رمضان في تلك الأماكن، فإنه لم يشهده وإن صامه، ويكتب الزيات في واحدة من افتتاحيات (الرسالة):
«ألفت منذ سنين أن أزور شهر رمضان في ربوعه الأصيلة ومغانيه الباقية، ومن لم يشهد رمضان في حي الحسين، أو في حي الحسينية، أو أمثالهما من الأحياء القديمة لم يشهده في قداسته المهيبة وجلالته الباهرة..
كنت في إحدى لياليه الزهر أخرج متى استيقظت المشاعر من فترة الصيام وسكرة الطعام، فأعبر القرون العشرة التي تفصل قاهرة الملك فؤاد وقاهرة الخليفة المعز، فأجد رمضان العظيم قد نشر بنوده وأعلن وجوده في كل شارع وكل منزل، فهو خير يتدفق في البيوت، وبشر يتهلل في الوجوه، وأنس ينطلق في المجالس، وذكر يتضوع في المساجد، ونور يتألق في المآذن، وسمر يتنقل في الأندية، ونفحات من الفردوس ترطب القلوب وتلين الأكباد وترف على ما ذوى من العواطف، فالحوانيت سامرة وإن لم تبع، والمصانع ساهرة وإن لم تنتج، والأبهاء عاطرة بحديث الأحبة حتى نصف الليل، والأفنية عامرة بذكر الله حتى أول السحر».
يمهد الزيات بهذا المشهد البديع لاجتماع السواد الأعظم من الناس، في الأحياء الشعبية وما شابهها، وهي الأحياء التي تتجسد فيها طبائع المصريين البسطاء بسلوكياتهم العفوية وعاداتهم المحببة وتقاليدهم المرعية على مرّ السنين، حيث يتجمع الناس على المقاهي يتحدثون ويتسامرون ويتجاذبون أطراف الأحاديث، إلى أن يظهر «سمير» السهرة، و«أنيس» الجلسة، شاعر الربابة الحكواتي ليتبدل الحال تماماً..
من هذه اللحظة تحديداً سيسجل الزيات ويوثق لتلك لظاهرة التي اندثرت تماماً الآن، ولم يعد لها وجود إلا في أرشيفات المأثورات الشعبي، وصفحات تاريخ الأدب، وهي ظاهرة «القصاص» أو «الراوي الشعبي» الذي كان يستحوذ على قلوب وعقول مستمعيه بما يرويه من قصص شعبي وسير الأبطال الشعبيين: أبو زيد الهلالي، وعنترة العبسي، والظاهر بيبرس، وحمزة البهلوان، وعلي الزيبق..
أما جمهور المستمعين لهذا الراوي، فهم «يستمعون في خشوع العابد وسكون العاشق ولهفة الطفل إلى القصاص، الذي «يتربعُ في صدر المكان منصةً عاليةً من الخشب العتيق، وهو في سمته وهندامه، ولهجة كلامه وطريقة سلامة نموذج العامي الأديب ومثال الحضري المثقف... حفظ كثيراً من الأشعار فاكتسب ظرف الأدب، وروى صدراً من الأمثال، فاكتسى وقار الحكمة، ووعى طائفة من الأخبار فاتسم برقة المنادمة، وهو إلى ذلك بارع النادرة، دقيق الفطنة، عذب المفاكهة، حاضر الجواب، يؤدي إلى هذا الجمهور الغرير دعوة الواعظ وأمانة المعلم ورسالة الأديب».