إيهاب الملاح (القاهرة)
من المفارقات اللافتة في حياة عباس محمود العقاد (1889-1964) ارتباط إنتاجه وصدور أشهر كتبه وأذيعها بشهر رمضان، خصوصًا بعد أن رسخ اسمه كأحد كبار الكتاب في مصر والعالم العربي، إن لم يكن أكبرهم في نظر مريديه وأتباعه ممن عرفوا باسم العقاديين، ارتبط شهر رمضان الكريم بصدور كتاب جديد من كتبه الغزيرة، فقد كان العقاد من نجوم الكتابة والتأليف في مصر والعالم العربي والإسلامي، وكان الإعلان عن صدور كتاب جديد للعقاد كفيلًا بضمان نفاد نسخه كاملة قبل طرحها لدى باعة الكتب والمكتبات.
تراث العقاد، الفكري الأدبي والإسلامي، تراث عريض ممتد، جاء نتاج ثقافة غزيرة عميقة قل أن تتوافر لآحاد الناس، كتب في جوانب الفكر الإسلامي، تفسيراً وحديثاً وتشريعاً وأصولاً وتراجم، ولم يترك فرعاً من الفروع أو علماً من العلوم لم يترك فيه رسالة وافية أو مقالة شافية أو كتاباً محيطاً بموضوعه.
لقد كتب الكثيرون عن الشهر الفضيل وروحانياته وفضائله، ولكن عندما يكتب العقاد عن «رمضان» فإن كتابته عن الشهر الكريم لها مذاق خاص وفرادة وتميز في اختياره للموضوعات أو الزوايا التي سيتناولها في كتابته عن «رمضان»، ولن يجد الباحث أو الدارس في كل ما كُتب عن الشهر الكريم ما يُغني عما كتبه العقاد من مقالات معرفية رفيعة ومهمة.
وقد جمع العقاد طائفة معتبرة من مقالاته التي كتبها عن «رمضان»، و«الصيام»، و«ليلة القدر»، و«الأعياد الدينية» في كتابه الجميل الممتع «عالمية الإسلام»، وهو كتاب يشتمل على مقالات العقاد التي نشرها في مناسبات مختلفة، وفي صحف ودوريات عصره مثل «الرسالة»، و«الثقافة»، و«الهلال»، و«الأزهر»، لكنها تتفق في النهاية في مجموعة من المباحث الطريفة والعميقة لموضوعات دينية من وجهتها التاريخية والفلسفية، يعالجها العقاد بما تميز به من عمق في التحليل وهندسة في العرض.
والحقيقة أن مراجعة ما كتبه العقاد في هذا السياق، يكشف عن جوانب من البحث وطرائق في العرض والتفات إلى تفاصيل تاريخية ومعرفية وإنسانية تجعل المرء في حيرة من أمره، فالأمر لا يقتصر على الإعجاب فقط، ولا المتعة ولا الفيض الغامر بهذه النشوة المعرفية الحقيقية، إنه يتجاوز كل هذا في سياق الفترة التي كانوا يكتبون فيها ويقدمون خلاصة معارفهم وقراءاتهم لقارئ يحترمونه ويجلونه..
وقد كتب العقاد 7 مقالات من أمتع ما يكون، عن شهر رمضان في اللغة والتاريخ، وألوان من الصيام في ثقافات الشعوب والديانات القديمة، وليلة القدر.. لم يعالجها بطريقة وعظية خطابية، ولا اجترارية تلقينية، إنما عالجها من منظور تاريخي فلسفي «معرفي».
أراد أن يستجلي وضعية الشهر الكريم في مرآة التاريخ والأمم والحضارات السابقة على الإسلام، وأن يقارن بين مكانة الشهر وارتباطاته الدينية والاجتماعية والثقافية في الإسلام والمسيحية واليهودية، كما قدّم بحثًا رائعًا عن شعيرة الصوم في الديانات السماوية الثلاث، ويبحث عن الفروق بين الصيام في اليهودية والمسيحية والإسلام، كما عالج فكرة الصوم في الحضارات والديانات القديمة، ثم أفرد حديثاً مطولاً عن ليلة القدر وشهر رمضان، وآفاقها الروحية وتجلياتها النورانية.