يشير الواقع الثقافي إلى أن المداح لا بد أن يكون هجاءً أيضاً، وفي ذلك كانوا يرون المهارة الشعرية في المديح والهجاء معاً وجعلوا ذلك من معايير الفحولة، وهذه حال المتنبي، حيث جمع الغرضين معاً وتمثل ذلك في موقفه مع كافور، حيث مدحه ثم هجاه، وهي حالة يكشفها بيته المركزي:
أبا المسك هل في الكأس شيء أناله
فإني أغني منذ حينٍ وتشرب
والمطلوب في هذا البيت هو إسناد ولاية من ولايات مصر إليه، فالمتنبي يطلب الإمارة أو لنقل المنصب كما في لغة عصرنا، ولم يك لدى المتنبي من وسيلة لبلوغ مبتغاه غير شعره. وقصائده هي أداته أي مؤهلاته المسنودة ببلاغته، بينما من تجارب الحياة أن الفكر والبلاغة لا توصلان للمنصب، والسؤال هنا هو ما الذي فقدته ثقافتنا من تعلق المتنبي بالمنصب لدرجة أنه صرف عمره كله لهذا الهدف غير المتحقق، كما سخّر مهاراته الشعرية والعقلية لهذا الغرض الذي لن يتحقق له إلا عبر غيره وليس عبر جهده، وهذا سؤال يطرح فرضية «المتنبي الفيلسوف»، وكل مؤشرات الخطاب العميق في شعره تكشف أن في داخله فيلسوفاً مقموعاً، قمعته شخصية الأمير المأمول الذي هو وعد تأسس من خيالاته وليس من إمكاناته، ومن ثم راح يطرق أبواب الإمارة التي ظلت تغلق في وجهه مرةً تلو أخرى، وهو الشاعر الذي يعرفه السيف والقلم حسب تعريفه لنفسه، ولكنه لم ينل غير ميتة ماتها شبه غيلة بسبب سيفه وقلمه معاً، غير أن ثمن تلك الميتة ضئيل، ولا تقارن بميتة سقراط مثلاً.
وكان للمتنبي أن يكون سقراط العرب لولا أن فارقه عن سقراط هو طمعه في أمر الدنيا بينما سقراط عف عن بهاء الدنيا وآثر بهاء الروح وقرر أن يحتفل بموته مثل البجع حين تغرد مبتهجةً بلحظة موتها بينما مات المتنبي تحت شعار «قاتل أو مقتول» والسيف وحده بطل اللحظة الحاسمة. وكل مرة أتجول فيها ببصيرتي في شعر المتنبي أجد سقراط تحت إهاب الكلمات، ولكنها تتحور لتعتزي بالسيف والخيل والليل، ورغم وجود القرطاس والقلم لدى المتنبي لكن السيف والخيل والليل تتقدم في الصدارة وهي صدارة تكشف علو مقام السيف على القلم رغم أنه قال في بيت آخر «الرأي قبل شجاعة الشجعان»، ولكن السيف ظل عنده يسبق الرأي باستمرار، والمديح يعلو على الحكمة، والمنصب يعلو فوق العقل المفكر، والطمع يعلو فوق القناعة السقراطية، وهذه هي خسارتنا الثقافية التي جعلت المتنبي عبقرياً عظيماً، ولكن في ثوب شحاذ عظيم، وصنعته المطامع بدلاً عن الفيلسوف، ورغم وجود مؤهلات لهذا وذاك لكن تغلبت خصائص الطمع على خصائص الفيلسوف.