إميل أمين
إذا كانت لوحات ليوناردو دافنشي تجذب المشاهد، فإن ما يجذبه أكثر هو شخصيته، ولا يزال الناس يتساءلون كيف كاد رجل واحد أن يلمَّ بعلم الدنيا بأسرها لسعة معارفه وتنوع مهاراته؟ وكيف تمكن ليوناردو من أن يترجم علمه الذي حصله في صورة أعمال لا مثيل لها؟ كيف استطاع أن يرسم لوحات عصرية، وأن يكون في الوقت ذاته قادراً على أن يفكر ويتأمل آلات الطيران والإنسان الآلي وأجهزة كثيرة أخرى تأملاً دقيقاً، فضلاً عن دراسته عدداً كبيراً من المسائل العلمية. في الكتاب الشائق «تراث دافنشي» للبروفيسور الألماني، ستيفان كلاين، والذي صدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، بترجمة الدكتور ناهد الديب أستاذ اللغة الألمانية وآدابها، وصف لدافنشي باعتباره «معجزة»، كون شخص ما استطاع على مدى فترة عمر إنسان، أن يعمل بعبقرية فذة في كل هذا العدد الهائل من المجالات! لقد وصفه المؤرخ والفنان التوسكاني جورجيو فاساري، الذي يعتبر أول من كتب سيرة له عام 1550، بأنه رجل رباني، فكلما مر الزمان زاد تعجب الناس من قدرة هذا الرجل، الذي عاش في القرن الخامس عشر، على أن ينجز كل هذه الأعمال!
ولد ليوناردو دافنشي في 15 أبريل 1452، في حوالي العاشرة والنصف مساء في مدينة فينشي، لموثق العقود سير بيرو دافنشي وكاترينا ابنة أحد الفلاحين. ونما دافنشي وكبر في عهد حكم آل ميديتشي لفلورنسا، وتلقى بدايات إلهامات الفن على يدي معلمه، فيروتيشيو.
ليست سيرة
هل نحن في صدد بحث في السيرة الذاتية لدافنشي؟ بالقطع لا، غير أن هناك دائماً الكثير من الجديد والمثير حوله ما يستدعي، في كل مرة، إعادة فتح ملف حياة هذا العبقري من جديد، لاسيما أن الأمر متعلق بتلك الفتاة المدعوة كاترينا، والدة دافنشي، وهل كانت حقاً من أصول عربية، وربما تحديداً من شمال أفريقيا؟
مؤخراً تمكن علماء الإنسانيات من تجميع بصمة سبابة يد ليوناردو دافنشي اليسرى، الأمر الذي دفع، لويجي كاباسو، عالم الإنسانيات ومدير معهد علم الإنسانيات في جامعة تشيتي في وسط إيطاليا، للتصريح بأن هذا الإنجاز يساعد، ضمن أمور كثيرة أخرى، في تحديد هوية والدة دافنشي، التي يكاد يجزم بأنها من «أصل شرق أوسطي»، وتحديداً من عرق عربي!
والسؤال: هل بصمة الإصبع وحدها يمكن أن تساهم في تحديد جنسية وعرق والدة دافنشي؟ بحسب كاباسو، فإن الأمر لا يتعلق فقط بأن لكل شعب خواص معينة لبصمات الأصابع، ولكن أيضاً لأن لكل شعب نسبة معينة مشتركة بين أشكال أصابع أفراده، والبصمة التي جمعت لدافنشي من فوق 52 ورقة لمسها بيده، تنطبق في الشكل على 60% من العرب، مما يشير إلى احتمال أن تكون أمه فعلاً من أصل شرق أوسطي!
أكثر من سؤال
وثمة سؤال آخر قد يخطر هنا على الذهن أيضاً: هل هنالك آراء أخرى تمضي في هذا الاتجاه؟
في مؤلفه المعنون: «الموناليزا: الشعب والرسم» يتحدث المؤرخ الفني البريطاني البروفيسور «مارت كيمب»، أستاذ تاريخ الفن بجامعة أكسفورد، عن والدة ليوناردو وكيف أنها لم تكن فلاحة، بل ربما كانت امرأة شرق أوسطية، وكانت تعيش في مزرعة على بعد ميل واحد من «فينشي».
وهنالك أيضاً رأي ثالث يرجحه، إليساندرو فيزوسي، الخبير في حياة ليوناردو دافنشي، ومدير متحف مخصص للفنان النابغة في مسقط رأسه، الذي يضيف أن هناك وثائق تشير إلى أن والدة ليوناردو كانت من أصل شرقي، ولاسيما من منطقة حوض المتوسط، ولكنه يقول إن تحديد هوية وأصل والدة دافنشي لا يمكن البت فيه بشكل قاطع ما لم يتم العثور على صك شرائها، ما يفيد بأنها كانت جارية!
وهكذا تتوالى الأسئلة، وتستدعي بعضها بعضاً: هل كانت الموناليزا إذن رسماً عاطفياً انطباعياً من ليوناردو لوالدته، وهل كان يفكر فيها عندما رسم تلك الابتسامة التي لا تزال غامضة وسحرها يحير الحكماء والأذكياء حتى الساعة؟
سر الابتسامة الغامضة
لقد ترك ليوناردو دافنشي عامداً متعمداً هذه اللوحة، وكأنه يثأر لهذه السيدة من كل من سيقدر له أن يرى صورتها لاحقاً، بل ويتركه في دوامة من الأسئلة بدءاً من سر الابتسامة الغامضة، التي تبدو في بعض الأحيان وكأنها تنظر من أعلى بسخرية إلى ما يدور من حولها، وكلما أمعنّا النظر إليها، عنّت لنا أسئلة كثيرة، عندما تبتسم نتساءل: لماذا تبتسم؟ أين تجلس؟ والأهم من ذلك، من كانت تلك السيدة نفسها؟
لم تتفق الآراء حول شخصية الموناليزا، فقد أشار، جيورجيو فاساري، إلى أنها سيدة من فلورنسا، اسمها ليزا جيرارديني، جلست أمام ليوناردو كموديل!
أما الباحث والأديب الإيطالي كارلو فيتشي، فقد اعتقد أن الموناليزا التي نراها اليوم لم تكن سوى محظية تدعى إيزابيلا جوالندا، وكانت أثناء فترة إقامة ليوناردو في روما، على صلة بعلية القوم هناك.
على أن راياً آخر يعود بنا إلى منطقة الحديث عن والدة دافنشي كاترينا، وإن بطريق غير مباشر. وصاحبة هذا الرأي هي الفنانة الأميركية، ليليان شفارتس، التي نشرت بحثاً في مجلة «ساينتفيك أميركان»، منذ بضع سنوات، أشارت فيه إلى أن دافنشي قام برسم لوحة الموناليزا خلال سنوات عدة، ومن غير أن يقدر له الاستعانة بموديل، تجلس أمامه، وعليه فغالباً ما كان يرسم نفسه بحسب شفارتس، وإن فتح هذا الرأي المجال، للقول إن دافنشي لم يكن يرى في مخيلته سوى كاترينا.
شفرة المذكرات
لقد عرف عن ليوناردو دافنشي أنه كان ماهراً في فن الإخفاء، كما كان يعشق تسلية الناس بالحكايات الخيالية والألغاز، فمذكراته تضم العديد من التلاعب الذكي بالكلمات وكذلك الألغاز المصورة، وكان عادة ما يستخدم الشفرة في مذكراته حول اكتشافاته أو خططه المستقبلية وذلك حماية لها من الفضوليين.
ولعل كلمتين تكفيان لكي نلخص سبب تأثير الموناليزا فينا، والحديث، لاستيفان كلاين: إنها تتفاعل معنا، غير أننا لا نستطيع التفاعل معها، فدافنشي يتلاعب بواحدة من أهم غرائز البشر ألا وهي ميل الإنسان الذي لا يقاوم إلى أن يتعرف على الصفات الشخصية لأي شخص يقابله من خلال وجهه، ومهما كانت المرات التي خدعنا فيها في الحكم على شخص ما من خلال ملامح وجهه، فنحن لا نستطيع ترك هذا الأمر.
إن أي فنان آخر في عصر دافنشي لم يتعمق -ولو من بعيد- كما فعل هو في أسرار الطبيعة البشرية، فمن خلال ثراء معلوماته تمكن من أن يتلاعب بمهارة وعبقرية بسمات الموناليزا، وكذلك بمشاعر المتلقي. فسمات السيدة الشابة على سبيل المثال ليست متناسقة: حيث ترفع زاوية فمها اليسرى بصورة أعلى، ومن ثم فإن الناحيتين تنشران حالة مزاجية مختلفة، فإذا ما قمنا بإخفاء نصف وجه الموناليزا الأيسر، فإنها أكثر جدية، أما إذا أخفينا الجانب الأيمـن، فإن الابتسامة تبرز بشكل واضح.
سر مكشوف
كان تعطش دافنشي للمعرفة ينبع من رغبته في أن يصل بالفن إلى مرحلة الكمال، ولكن بمرور السنين أخذ في سعيه إلى المعرفة يبتعد عن عزمه الأول وتطور حالته الخاصة، فعندما يبدأ ليوناردو في التساؤل فلن يستطيع أن يتوقف.. ومن هنا تبقى الموناليزا رغم كل ما تقدم سر ليوناردو المكشوف، من غير مقدرة على فك اللغز في الحال أو الاستقبال!