الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بيتهوفن.. رسالة سلام للبشرية

بيتهوفن
24 فبراير 2022 00:54

محمود إسماعيل بدر 

يشكّل الملحن والموسيقار الألماني العبقري لودفيج فان بيتهوفن (17 ديسمبر 1770 - 26 مارس 1827) حالة خاصة بين أقرانه: شومان، مندلسون، شوبرت، فيبر، برليوز، برامز، بروكنر، هايدن موتسارت، باخ، وغيرهم، في الحقبة الكلاسيكية التي سبقت الرّومانسية بروح القرن التاسع عشر الجديدة، فهو الذي قدّم للعالم كل الدّعابة في الموسيقى أو بمعنى أصح المزاج الفني كما عرّفه شكسبير، في أسمى مظهر له -أي الذي يؤثر في الرّوح والوجدان، فلا يكاد المرء يقترب من موسيقاه الفخمة إلاّ وقد أعدّ نفسه لسماع لا يشبه كثيراً أي سماع آخر، وهيأ نفسه لاستقبال ما هو كامن خلف هذه الموسيقى التي تتمتع بخيال سام وعمق عاطفي شفيف، وبخاصة سيمفونياته ذات الشأن العظيم بقوالبها الفنية الفريدة، وتميزها بسحر خاص وخيال شاعري أخاذ، والتي لا ينقصها ذلك الجمال والشّهرة والقوة الفنية فلم يطاوله أحد في البناء الموسيقي، الذي يعدّ من أهم جماليات وتقنيات هذا النّوع الفنّي، وهو الذي يكشف مدى قوة السيمفونية وتمكن واقتدار مؤلفها.
وترجع طريقة بيتهوفن في الإبداع إلى حركته الدّائبة في أدب الموسيقى، وإلى شدّة ولعه ببحث المشكلات ذات الصّلة بتقديم فن موسيقي عالمي إنساني بالدّرجة الأولى، وكانت غايته الوحيدة من كل هذا الجهد، هي التّعبير عن أفكاره تعبيراً يتميز بالوضوح والإقناع والاستقصاء، وغاية ما يمكن الإشارة إليه هنا هو خصائص مؤلفاته بوجه عام وأثرها على الحضارة الإنسانية، والدّعامات الأخلاقية التي اعتمدت عليها، والمشكلات الجديدة التي اكتشفها وحلّها.

ومع هذا ينبغي الإشادة بما يميز فضاء تعبيراته الفنية من مظهر كلّي عالمي بامتياز، إذ إن عظمته الفنية لا تقتصر فقط على أستاذيته في دائرة التعبير الموسيقي الغنائي أو على تخصصه في مجال كتابة النوته الموسيقية المحكمة، التي أنجزت للعالم سيمفونياته التّسع، التي مثّلت بمحتواها أعظم ما تحقق في تاريخ الموسيقى، وافتتن بها جموع الشّعب، والنقاد الذين وصفوها بأنها تحمل موسيقى جماهيرية، كونها تعبّر عن آمال جموع الشّعب الكبيرة وعواطفها وأشجانها، بعد أن أثارتها أوجاع وغايات وأفراح وأمانٍ مشتركة جرّاء أحداث سياسية واقتصادية كبيرة، والموسيقى هنا ذات طابع عالمي، أي أنّها ليست ألمانية أو دينية فحسب، بل يستطيع كل إنسان في أرجاء الأرض أن يتمتع ويتأثر بها بفضل بلاغتها وقوة تأثيرها وسحرها ومظهرها الحماسي وسلاستها ووضوحها، بغض النّظر عن البلد أو اللغة أو العقيدة.
روحانية ومثاليةتمثل الرباعيات الست عشرة الوترية، جانباً آخر من إبداع بيتهوفن، إذ تعتبر من أكبر منجزات الفن الغربي، وبخاصة رباعيته «انتصار وليغنتون»، ففيها تألقت بوضوح روحانيته ومثاليته، وتعدّ هذه الرباعيات دليلاً ساطعاً على قدرته الذهنية الفائقة في معالجة مشكلات الشّكل والإنشاء -البناء الفني الموسيقي- وتعقيداتها، وهنا لم يكتفِ بغزو عوالم جديدة من الموسيقى، بل لقد تعهد برعايتها وتطويرها، إلى أن استطاعت أن تؤتي ثمارها، فقد كان متقدماً على عصره بقرن من الزّمن، فقد عرف بجلاء مشكلات الموسيقى الإلترامودرن، وما زالت سوناتاته ورباعياته الأخيرة تُعد حتى يومنا هذا أفضل أمثلة شامخة لموسيقى المستقبل. إنها في الواقع موسيقى حديثة من أسمى طراز مستطاع كونها مهدت فعلاً للخروج عن النظام الهارموني الأوروبي في القرن العشرين.

  • فردريك شيللر
    فردريك شيللر

وسيمفونيات بيتهوفن الممجد للطبيعة، تسجل بعوالمها الفريدة صروحاً شامخة في أدب الموسيقى الكلاسيكية، وكأنها مثل أقدم القلاع الأثرية العريقة التي لا ينفد معينها وزخمها، وبعضها يعدّ أعمدة ومداميك في بناء الموسيقى العالمية، كالسيمفونية التّاسعة (1823)، التي كانت خاتمة روائعه الموسيقية في هذا الميدان، وربما رسالته الأخيرة للبشرية التي أهدى إليها موسيقى جبّارة كان محروماً من سماعها في أيامه الأخيرة. وقد بعث من خلالها رسالة تكرّس قيم الإخاء والمحبة والسلام، من خلال قصيدة الشاعر الألماني «فردريك شيللر» الموسومة بـ«أنشودة الفرح» والمعبّرة عن رؤيته المثالية بأن يصبح أبناء الجنس البشري إخوة لبعضهم بعضاً، كما أنها تحوّلت إلى رمز من رموز الثورة الفرنسية في تلك الحقبة التاريخية وقد ضمّها بيتهوفن بمهارة عالية إلى سيمفونيته، ومن أجلها أدخل الصوت البشري على قالب موسيقي لا يقبل بوجود الغناء.

  • ملصق فيلم البرتقالة الآلية (1972)
    ملصق فيلم البرتقالة الآلية (1972)

وقد استُخدمت موسيقى هذه السيمفونية عالمياً في مجالات السينما والمسرح والأوبرا، على نحو فيلم «البرتقالة الآلية» -1972- للمخرج الأميركي ساحر الخيال والواقع ستانلي كوبريك، حيث جسدت حضوراً نوعياً في مصاحبة أحداث العمل السينمائي. كما أنها أيضاً مثلت إرثاً تاريخياً للمنتصرين، كما بدا استثمارها في استقبال الحدث التاريخي المتمثل في إسقاط جدار برلين، حينما عزفت فرقة المايسترو ليونارد برنشتاين سيمفونية بيتهوفن عام 1989، على جانبي جدار برلين الذي أسقط، تعبيراً عن مركزية الحرية والمحبة والإخاء وبناء الثقة.

  • أوركسترا هامبورغ تعزف لحن السيمفونية الخامسة لبيتهوفن
    أوركسترا هامبورغ تعزف لحن السيمفونية الخامسة لبيتهوفن

السيمفونية الخامسة
ولا ننسى في هذا السياق أيضاً الإشارة إلى سيمفونية بيتهوفن الخامسة (1804 - 1808)، التي ألفها وهو في الثلاثينات من عمره، وكان بدأ يصيبه بعض من الصّمم، وأنجزها خلال 4 سنوات، وتعتبر على نطاق واسع إحدى أهم ركائز الموسيقى الغربية، وصوّر فيها معركة الإنسان ومآلاته، في ظلال 4 حركات أو نغمات. ولا يوجد حتى اليوم أشهر من افتتاحيتها، حيث تسمع ضربات المآل العنيفة التي تعلن عن مجيئه، فتخلع القلوب وتحقق الصدمة، بعد أن وظّف فيها بمهارة آلة التيمباني، لغايات خلق التوتر والإحساس بالخوف والفزع. كما اعتمد على النحاسيات الهوائية كالترومبون والترومبيت والبوق الفرنسي، من أجل وضع بعض اللمسات الموسيقية العنيفة، ومجموعة الوتريات (الفيولينة والفيولا والتشيللو والكونترباص) للقيام بأكثر من دور، ثم الكلارنيت الشاعري الذي تعد لحظات انفراده التام القليلة من اللحظات الموسيقية الساحرة في هذا العمل الذي يعكس قدرته الميلودية الفائقة، وقد وصفها الكاتب والمؤلف الألماني إرنست هوفمان بعد عرضها الاستثنائي في مسرح فيينا سنة 1808، بأنها «واحدة من أبرز المؤلفات الموسيقية المعاصرة»، موضحاً أن «الجمهور الذي حضر العرض الأول للسيمفونية الخامسة، فسّر الانتقال التدريجي من النّغم الحزين الشفيف الذي يوحي بالمعاناة إلى اللحن القوي الذي يوحي بالانتصار، بأنه تعبير عن معاناة بيتهوفن الشخصية وصموده في مواجهة الصّمم، فهو مصارع الحظ وصريعه، وأعماله جميعاً تجسد موضوع النضال البطولي من أجل الحرية».

  • إرنست هوفمان
    إرنست هوفمان

رسائل إنسانية 
والحديث عن بيتهوفن لا يتوقف عند زاوية واحدة، ولكنه بشاعريته وجماليات أعماله ورسائله الإنسانية يمثل واحداً من أعظم ظواهر الثقافة العالمية على مستوى التنوير والاستشراف، إذ تتساوى إنجازاته الموسيقية مع فن عمالقة الفكر الفني مثل تولستوي ورامبرانت وشكسبير، من حيث العمق الفلسفي والتوجه الديموقراطي والشجاعة والابتكار والبحث في موضوعة المحبة الكونية، فهو في الواقع لا مثيل له في الفن الموسيقي في أوروبا في القرون الماضية، حيث تجسد أعماله الصحوة العظيمة للشعوب والبطولة والدراما في عصر الثورات والخلاص، مخاطباً كل الإنسانية المتقدمة، فقد كانت موسيقاه تمثل تحدياً جريئاً لجماليات الارستقراطية، فقد تشكلت نظرته للعالم من خلال الحركة الثورية التي انتشرت في الدوائر المتقدمة للمجتمع في مطلع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تشكل التنوير البورجوازي الديموقراطي في ألمانيا، ضمن الاتجاهات الرائدة للفلسفة والأدب والشعر والمسرح والموسيقى الألمانية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©