إيهاب الملاح
مع مطالع هذا الشهر (فبراير 2022)، ودَّعت الحياة الفنية والمسرحية في مصر والعالم العربي واحداً من عمالقة الفن المسرحي والدرامي لما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، وهو الفنان جلال الشرقاوي (1934 - 2022)، المخرج المسرحي والسينمائي، والممثل والمنتج، والناقد والأستاذ الأكاديمي في معهد الفنون المسرحية لسنواتٍ طويلة، ثم عميد المعهد المسرحي الأشهر بأكاديمية الفنون المصرية، في فترةٍ ذهبية وزاهية من تاريخه العريق.
ومسيرة جلال الشرقاوي تاريخ طويل وحافل، وقد كان، رحمه الله، من أبرز مخرجي جيله، وحياته قصة كفاح عظيمة سجلها في مذكراته المهمة والضخمة التي صدرت في أربعة أجزاء عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وعُدَّت من أهم وأمتع مذكرات الفنانين المصريين والعرب التي تسجل تاريخهم الفني وسيرتهم الذاتية وتاريخهم الحي في الإبداع والعطاء الفني والمسرحي.
وينتمي جلال الشرقاوي إلى جيل الكبار من مخرجي المسرح المصري، وكان أحد ثلاثة مسرحيين عادوا من الخارج في الستينيات ليغيروا الكثير، وليواكبوا العصر الذهبي للمسرح المصري، في فترة الستينيات العظيمة (1960 - 1970)، وذلك عندما أقامت الدولة المصرية في الحقبة الناصرية مؤسسة المسرح التي كونت عشر فرق مسرحية في وقتٍ واحد، وكان العرض يستمر 15 يوماً، وأكثر مسرحية استمر عرضها لمدة شهر واحد، ثم يتم عرضها في التلفزيون، وكل هذا الزخم المسرحي كان مرتبطاً بتوجه فوقي أصيل من الدولة، ولم تكن هناك رقابة. وكان هذا هو السياق الذي بزغ فيه نجم جلال الشرقاوي، فبالإضافة إليه، وقد درس المسرح والسينما في فرنسا، والاتحاد السوفييتي السابق، عاد من إيطاليا أيضاً كلٌّ من سعد أردش، وكرم مطاوع.
بلدي يا بلدي
وبينما قدَّم سعد أردش أعمالاً مصرية رائعة لسعد الدين وهبة، مثل «سكة السلامة»، وقدَّم كرم مطاوع تجاربه الشهيرة مع يوسف إدريس في «الفرافير»، ومع نجيب سرور في «ياسين وبهية»، قدم الشرقاوي أيضاً كمخرج مسرحيات مهمة مع رشاد رشدي في «بلدي يا بلدي»، ومع علي سالم في «ولا العفاريت الزرق»، وسيُشتهر فيما بعد بتقديمِ ما سيُطلق عليه «مسرح الكباريه السياسي».
ورغم ارتباط جلال الشرقاوي بمسرح الدولة، ومسرح توفيق الحكيم، فقد انطلق إلى التعاون مع الفرق الخاصة، وأبرزها بالطبع فرقة «الفنانين المتحدين»، وقدَّم معها مسرحيته الأشهر التي غيَّرت شكل المسرح الكوميدي «مدرسة المشاغبين»، وهي المسرحية التي أطلقت نجومية كلٍّ من عادل إمام وسعيد صالح إلى مداها الأقصى، كما عرفت الناس بموهبة أحمد زكي، ويونس شلبي، وتبادلت بطولتها سهير البابلي وميرفت أمين، كما قام بدور الناظر في بدايتها عبد المنعم مدبولي.
ممثل ومخرج ومنتج
والحال أن تأثير جلال الشرقاوي متعدد الأوجه الفنية، وحياته وكفاحه وحدهما يدلان على درس مهم في الإصرار، فقد تخرج في كلية العلوم، ولكنه درس أيضاً التربية وعلم النفس، وتخرج في معهد الفنون المسرحية في عام 1958، وكان يمكن أن يكتفي بدراسة المسرح، ولكنه درس السينما أيضاً، وأخرج عدة أفلام أبرزها، بحسب الناقد محمود عبدالشكور، فيلم «العيب» المأخوذ عن رواية يوسف إدريس الشهيرة، وفيلم «الناس اللي جوه»، وهو مأخوذ عن رواية «منزل الموت الأكيد» للروائي المصري الذي كان يكتب بالفرنسية ألبير قصيري، وكان الشرقاوي كذلك ممثلاً ومخرجاً ومنتجاً، ومن أدواره المميزة دوره في مسلسل «الحب وأشياء أخرى» لأسامة أنور عكاشة.
أما تاريخ جلال الشرقاوي كمعلم في معهد الفنون المسرحية، ثم كعميد للمعهد، وأستاذ غير متفرغ فيه، فهو أيضاً تاريخ حافل، وكتبه كذلك عن «فن المسرح»، و«فن الممثل»، وسيرته الذاتية الضخمة بعنوان «حياتي في المسرح»، الصادرة عن هيئة الكتاب، يعتبرها محمود عبدالشكور من أفضل وأمتع مذكرات رجال المسرح المصريين، وفيها توثيق كامل لأعماله، التي تمثل جزءاً مهمّاً من تاريخ المسرح المصري، وفيها كذلك شهادات مهمة للغاية عن شخصياتٍ عرفها، مثل الممثل والمخرج والكاتب والشاعر الراحل نجيب سرور.
ولطالما نادى جلال الشرقاوي بإنشاء مسرح مصري وعربي محترم على غرار المسارح العالمية الكبرى، تلعب فيه التكنولوجيا دوراً مهماً، مثل مسارح أوروبا الكبرى، فالمسرح هناك عبارة عن دارٍ للعرض المسرحي الذي يجمع بين المسرح التقليدي، والسينما، والمسرح الأسود والسحري، وكل أنواع الفنون مجتمعة، هذا من ناحية الشكل. أما من ناحية المضمون، فيتعيّن إلغاء كل أشكال الرقابة على المصنفات الفنية، سواء رقابة وزارة الثقافة أو أي رقابة أخرى، وأن يعامل الفن شأن معاملة الدولة للتموين والصحة وكل ما يمثل ضرورة حقيقية للإنسان. وكان الشرقاوي لا يكف عن مطالبة مؤسسات الدولة بدعم الفن مثلما تدعم رغيف الخبز، وكان يشدد على أن أي نظام يريد بناء الإنسان وتحقيق وجود متميز لمواطنيه يتعين أن تكون نقطة البدء، بالنسبة له، تشكيل عقل الإنسان ووجدانه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالفن والأدب والثقافة.
عاشق للفنون
في عام 1976 أسس جلال الشرقاوي «مسرح الفن»، بشارع رمسيس في وسط القاهرة، الذي قدم عليه مسرحيات ذات طابع سياسي، ذاعت شهرتها وحققت نجاحاً جماهيريّاً كبيراً، وأقبل عليها الجمهور بكثافة. وقد استهل «مسرح الفن» عروضه بمسرحية «شهرزاد» من تأليف الدكتور رشاد رشدي، وإخراج جلال الشرقاوي، وأدى أدوار البطولة كل من محمد عوض ولبلبة.
وقد اشتهرت عروض «مسرح الفن» بالنقد السياسي المباشر واللاذع، ما أدى إلى تعرضه إلى أزمات عديدة بل عنيفة وصلت أحياناً إلى حد الإغلاق والتشميع وإيقاف العروض تماماً! ومن أشهر المسرحيات السياسية التي قدمها «مسرح الفن» لجلال الشرقاوي، مسرحية «انقلاب» التي أنتجت عام 1988، وكانت من بطولة نيللي وإيمان البحر درويش ومن تأليف صلاح جاهين، وكذلك مسرحية «على الرصيف»، ومسرحية «دستور يا سيدنا»، ومسرحية «الدنيا أراجوزات».
ويمكن القول إجمالاً، إن جلال الشرقاوي - بحسب عبدالشكور- كان «مؤسسة في رجل»، وكان عاشقاً لفنون الدراما عموماً، ولفن المسرح تحديداً، وهو من القلائل الذين أنفقوا ما جمعوه من مال على تأسيس مسرح باسمهم، وقد تعرض المسرح للإغلاق في نهاية عهد مبارك بدعوى مخالفة الشروط الخاصة بالدفاع المدني والحريق، ولكنه عاد للعمل من جديد، رغم تقدم الشرقاوي في العمر.
وفي هذا الصدد يتعين أن نتذكر أن حياته لم تخلُ من مشكلاتٍ ومتاعب، سواء مع الفنانين، أو مع الأجهزة الرقابية، ومن أشهر خلافاته مشكلته مع إيمان البحر درويش بطل مسرحية «انقلاب»، وذكر أيضاً نور الشريف مشكلاته معه أيام كان نور طالباً في المعهد، وكان الشرقاوي أستاذاً له، وإن اعترف نور بأستاذية الشرقاوي، وقد عمل معه بعد ذلك في مسرحية من إخراجه هي «المليم بأربعة»، والتي كانت تنتقد ظاهرة شركات توظيف الأموال، وعمليات النصب على الناس باسم الدين.
روائع درامية
وعن أسلوب جلال الشرقاوي الفني الذي جمع بين جماليات المسرح والسينما، وتنقل بينهما بسلاسة واقتدار، يقول الناقد الفني محمود عبدالشكور:
تظهر في أسلوب الشرقاوي كمخرج مسرحي استفادته من السينما، بل إنه قدّم في عمله المهم «انقلاب» مزيجاً بين خشبة المسرح وشاشة السينما، هناك عناية بإيقاع المسرحية، وابتكارات مدهشة، واكتشاف لإمكانات الممثلين بشكل مختلف، فالطريقة الهادئة التي يضحك بها عادل إمام في مدرسة المشاغبين، تختلف تماماً عن طريقته الهزلية في أعماله الأولى مثل دوره في «أنا وهو وهي»، وقد صارت هذه الطريقة تميز أعمال عادل إمام اللاحقة. واستخدام جلال الشرقاوي للحركة البطيئة، مثلًا، في أحد مشاهد «مدرسة المشاغبين»، يذكرنا أيضاً بالتكنيك السينمائي، بينما استخدم أداء محمد صبحي إلى مداه في مسرحيتيه الشهيرتين «الجوكر» و«البغبغان».. كان مخرجاً كبيراً، وأستاذاً ومعلماً فاهماً، وعلامة مهمة في دنيا الدراما المصرية والعربية».
لقد كان مخرجاً وممثلاً وفناناً شاملاً مبدعاً قدَّم أعمالاً رائعة، وأسعد جمهوره على امتداد العالم العربي وأمتعه بروائعه المسرحية والسينمائية والدرامية التي لا تُنسى.. رحم الله جلال الشرقاوي، فقد أعطى وقدَّم الكثير للحياة الفنية في مصر والعالم العربي كله.