افتتح أفلاطون جمهوريته بحوارٍ بين تراسيماخس وسقراط حيث طرح الأول فكرة أن «العدالة للأقوى»، غير أن سقراط حاول أن يرد مفنداً المقولة، ولكن سقراط نفسه أحس بضعف حججه في الرد، ووصف أفلاطون ضعف موقف سقراط بقوله «مع ذلك صرح سقراط أن حججه غير قاطعة لأنه لم يتوصل بعد إلى اكتشاف حقيقة العدالة»، وبعد مزيد حوارٍ يعلن سقراط أنه «تلميذ خامل»؛ لأنه عجز عن تفنيد مقولة العدالة للأقوى، وليست هذه أول حالة تتبدى فيها صورة سقراط الواقعي والشجاع الذي يجعل المعرفة الخالصة أهم عليه من ذاته، فهو الذي تعود على كسر غرور الذات وغلوائها، وحرص على تدريب مريديه وتلامذته على قوة الحجاج مع التسليم بالقيمة المعرفية للحجاج، ووظيفة الجدل عنده هي لامتحان الأفكار وليست لتعمد إثبات صحة الفكرة أو نفي صحتها، وأي فكرة يجري امتحانها ويتبين أنها لا تصمد أمام الأسئلة يجب أن نسلم أننا «لم نتوصل بعد إلى اكتشاف الحقيقة» حسب قاعدة سقراط، ومن قبل ذلك قال سقراط عن نفسه: إنه ليس بحكيم وليس بعالم، ثم شرع بالتطواف بين الفلاسفة والشعراء وأصحاب المهن، باحثاً عندهم عن الحكمة، وخلص إلى أنهم مثله لا يملكون الحكمة، وأن كل واحد منهم يملك جزءاً من الحكمة وما هو حكمة عند أحدهم سيكون جدلياً عند غيره؛ ولذا قال: «كلما رأيت حكيماً حاولت أن أثبت له أنه ليس بحكيم»، وهذا يشير إلى الحاجة لكسر غرور العقل البشري الذي يميل بسببه البشر إلى تصديق عقولهم، ومن ثم التشبث بمعقولاتهم في حين أنهم واقعياً يختلفون حول منظومات المعقولات، ومعقولات هذا تختلف دوماً عن معقولات ذاك، ويظل الجدل بينهم؛ لأن لا أحد منهم يدرك نقص ذاته كما فعل سقراط وجهر بأنه تلميذ خامل حين رسبت جدليته أمام واحد من تلاميذه، إذ لم يتمكن من تقويض مقولة التلميذ حول مفهوم العدالة وظل يرى أن العدالة عنده لما تزل ملتبسةً، وصعب عليه أن يسلم بأن العدالة للأقوى غير أنه يدرك أن العدالة في واقعها لا تختلف عن الحكمة في أنهما معاً جزئيتان، وعدالة هذا غير عدالة ذاك، في حين إن الظلم يقع حتى من العاقل والحكيم، ويرد في محادثات أفلاطون رؤى تكشف أن العادل المظنون به العدل يرتكب المظلمة إذا كانت مصلحته مع الظلم، فالعدالة أيضاً جزئية وتقع تحت تعريف وتوجيه القوي، والمهيمن يأخذ العدالة بمعنى أنها من مصلحة الأقوى كما ذهب تراسيماخس، وكما تعززها حوارات أفلاطون من حيث ثنائية العبد والسيد التي تفضي عنده للقول بأن الحرية والمساواة شر مؤكد لأنها تساوي بين العبد والسيد، وقال: إن على الدولة وعلى الأطباء قتل الضعفاء من النساء والأطفال لأنهم لا ينفعون الدولة، بل ذهب للقول، إن الشعب نفسه سيتولى قتل الضعفاء ليتخلص منهم، وهنا تنتهي حوارات أفلاطون في جمهوريته لتجعل العدالة للأقوى والحرية للأقوى والمساواة شراً.
وسينتهي سقراط الطيب ليكون تلميذاً خاملاً أمام سقوط الحكمة البشرية ووقوعها في براثن العجز، وينتهي سقراط بأن يقول: إن الحكمة الكاملة لله وحده وليس للبشر سوى الأجزاء، وكذا هي حال العدالة.