إبراهيم الملا (الشارقة)
أسهم الغزو الإسباني لدول أميركا اللاتينية بدايات القرن السادس عشر، في انعطافة كبرى داخل المنظومة الاجتماعية والثقافية لهذه الدول، وكان إطلاق المسمّى المجازي وهو «الهنود الحمر» على شعوب تلك المناطق، هو العنصر المحوري لتشكيل انطباعات ملتبسة وحائرة لدى الغزاة من جهة، ولدى السكان الأصليين من جهة أخرى، خصوصاً أن الأراضي المكتشفة لم تكن عذراء كما توقع الغازي في متخيّله التوسّعي، بل كانت أراضي حاضنة لحضارات قائمة منذ عهود سحيقة، ولكنها كانت منسيّة ومعزولة.
عندما وصل المحتلّ الإسباني إلى شواطئ هاييتي وكوبا، قام بعملية إبادة مُمَنْهَجة ومُؤلمة، حيث أبعد السكان الأصليين وهجّرهم إلى الجبال والغابات، واستغل المناطق الخصبة وذات الثروات المعدنية والزراعية أبشع استغلال، وكان الشيء اللافت هو أن فترات الهدوء بين الطرفين شهدت تزاوجاً بين الإسبان وبين نساء المناطق الهندية، فظهر جيل من الخلاسيين المولدين، وهذا الجيل بامتداداته المتشعّبة هو الذي يحكم قبضته على سائر مناحي الحياة في أميركا اللاتينية اليوم، لأن الكثير من الأجيال التابعة للسكان الأصليين باتوا خارج دائرة التأثير الاقتصادي والعمل السياسي.
وظهرت أولى بوادر الأدب الروائي اللاتيني مع بزوغ الرواية الشفهية، حيث كان الرواة يسردون الملاحم والأساطير المتوارثة، ثم تطوّر الأمر على يد رجال الدين الكاثوليك، بعد اكتشافهم أن الوعظ المباشر للتعاليم المسيحية لا يؤثر في السكان، بل كانوا ينفرون منه، فبدأ رجال الدين المسيحيون باستغلال الحكايات الأسطورية المحلية كمدخل مؤثر وملهم للوصول إلى قلوب وعقول السكان، وعلى إثر ذلك ظهرت فنون تعبيرية موازية أخرى مثل المسرح والتشكيل والشعر والقصة.
وفي عام 1880 ظهرت مجموعة قصصية بعنوان «الأزرق» للكاتب روبين داريو، وهذه المجموعة بالذات، وبما تحمله من زخم إبداعي مكثّف، استطاعت أن تؤثر على جيل كامل من المبدعين الشباب، وامتد هذا التأثير إلى إسبانيا نفسها، وأصبح هناك تمازج خلّاق بين قارتين كانتا تحملان الكثير من الاختلافات العرقية والبيئية والاجتماعية.
وفي دراسة له حول خصوصية أدب أميركا اللاتينية، يرى المترجم والناقد طلعت شاهين، أن الرواية الأميركية اللاتينية، ظلت ولفترة طويلة سيدة الرواية في العالم، وترجمت إلى جميع اللغات الحيّة تقريبا، كما أن اللغة الإسبانية نفسها يتحدث بها 400 مليون إنسان على وجه الأرض في خمس وثلاثين دولة، بالإضافة إلى ذلك فإن الأوروبيين يستطيعون التواصل بسهولة مع اللغة الإسبانية لوجود جذر لاتيني مشترك في القواعد اللغوية.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، يتمثل في مدى قدرة الجيل الجديد من أدباء أميركا اللاتينية على تجاوز وتخطّي ميراث «الواقعية السحرية» التي أسّس لها أدباء روّاد وكبار أمثال: خوان رولفو، وماركيز، وبورخيس، وجورجي أمادو، وروملو جاريوس وغيرهم، حيث ظهرت إشكالية التعامل مع الفضاء التعبيري المرتبط بالخيال واللغة لدى الجيل المهاجر إلى الولايات المتحدة وكندا والمدن الأوروبية، وهو جيل رافض للهيمنة العسكرية والاستبداد والفساد في الحواضن اللاتينية الكبرى، وبالتالي فإن تمرّده على التقاليد القديمة والمكرّسة سيكون له تأثير بالغ على نوعية الكتابة الأدبية والروائية، وستكون ظلال وأصداء الماضي في مهبّ قوى من التغييرات الفكرية المنبثقة من المكان الجديد والواقع المختلف، وكانت باريس بداية هي الملجأ الثقافي للجيل اللاتيني المحتّج والغاضب، وهناك في عاصمة النور نضجت تجارب هذا الجيل وزاد احتكاكه بالمدارس الأوروبية ذات الخيارات الحرّة والمتنوعة، فأنتج المنتمون لهذا الجيل المغامر أعمالاً تخلّت تدريجياً عن «النوستالجيا البائدة» وباتت تحاكي «الواقعية المدنية» في عواصم وحواضر حيّة وديناميكية، مثل لندن ونيويورك وبرلين وتورنتو وغيرها، وأثبتوا بذلك أن الكاتب لا يموت بالضرورة خارج وطنه.