إيهاب الملاح (القاهرة)
فقدت الحياة الثقافية المصرية والعربية الأكاديمي والناقد والمفكر الكبير جابر عصفور (1944-2021) عن 78 عاماً، بعد أزمة صدرية ألمت به دخل على إثرها المستشفى قبل أسابيع، ليلفظ أنفاسه الأخيرة فجر أمس الجمعة. جابر عصفور أحد أبرز وأهم النقاد المصريين والعرب الذين ظهروا في العقود الخمسة الأخيرة، وكان يمثل مع أسماء أخرى رأس حربة الحداثة النقدية والفكرية في الحياة الثقافية العربية خلال الفترة ذاتها. ولد جابر عصفور في مارس من عام 1944 بمدينة المحلة الكبرى، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بها، ثم التحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة القاهرة عام 1962، وتخرج فيها عام 1966 وكان الأول على دفعته بتقدير ممتاز، ليعين بعدها معيداً بالقسم، ويحصل على الماجستير تحت إشراف الدكتورة سهير القلماوي عن رسالته «الصورة الفنية في شعر شعراء الإحياء والبعث».
وفي عام 1973 حصل تحت إشرافها أيضاً على الدكتوراه عن رسالته «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب»، وقد كانت هذه الدراسة فاتحة أكاديمية حقيقية، وبوابة عبور علمية ومنهجية، أمام جيل مثقف واع من الباحثين النابهين في درس التراث العربي والإسلامي لعل أبرزهم المرحوم نصر أبو زيد، والمرحوم الدكتور علي مبروك، ليستهل بعدها مشواره الأكاديمي والبحثي والنقدي الزاخر طوال ما يقرب من نصف القرن.
تكشف رسالتا جابر عصفور السابقتان عن الصورة الشعرية، ومفهوم الشعر في التراث النقدي، عن نمط المعرفة التي تلقاها عن الشعر، فهي دراسات نصيّة ذات طابع نظري، وأرهفت قدرته على التجريد الفلسفي، الذي يتخذ من النصوص الشعرية قرائن وأدلة على سلامة التصورات النظرية، وقدرتها على الإجراء التطبيقي، وسيدرك قارئ هاتين الرسالتين اللتين نشرتا في كتابين بعد ذلك، ضخامة الجزء المختفي من جيل الجليد، الجزء الذي يتوارى ويلوح كأنه غائب، فيما هو كامن، هناك، يوجّه الناقد، ويحدد لكنته، ويدل على اختياراته.
مناصبه
ساهم جابر عصفور مع الراحل صلاح عبد الصبور والراحل عز الدين إسماعيل في تأسيس مجلة «فصول» النقدية عام 1981، ثم تولى رئاسة تحريرها عام 1991 وشكلت الفترة التي مارس فيها أدوار رئيس التحرير الفترة الذهبية في عمر المجلة التي لعبت أهم دور في ترسيخ المذاهب النقدية الحداثية في مصر والعالم العربي.
مارس جابر عصفور التدريس في جامعات مصر والعالم العربي وأوروبا وأميركا، وتولى العديد من المناصب منها أمانة المجلس الأعلى للثقافة في مصر ما يزيد على عشر سنوات، فأسس المركز القومي للترجمة عام 2006 وتولى رئاسته حتى 2010، وتولى حقيبة وزارة الثقافة المصرية في حكومة 2011، وحكومة 2016 لتنتهي رحلته مع المناصب الرسمية في عام 2017، ليتفرغ بعدها لإكمال مشروعاته التأليفية في النقد الأدبي، وتحليل الخطاب، وإشكاليات الفكر المعاصر.
وفي عمل عصفور النقدي منذ البداية ما يشي بتململه من الوضعية، وهو تململ ظل يكبر حتى صار بالغ الوضوح، وخصوصاً بعد تبنيه المفهوم ما بعد البنيوي عن القراءة ومعوقاتها، وما يوجهها ويؤثر فيها، وقد عبر عن هذا في دراسة طويلة تصدرت كتابه عن قراءة التراث، ويبدو أن الناقد كلما ابتعد عن «الجماعة المغلقة» الأكاديمية، واقترب من «الجمهور العام» بتنوعه وغموضه وتعدد طبقاته، اتسعت المسافة بينه وبين المفهوم الوضعي، وصار أقرب إلى النقد بصفته كتابة تجاور بين الخطابات، وتكشف عن طبقات متراكمة من المعرفة والخبرة، التي فيما تؤكد عدم تطابق ذاكرة الناقد مع ذاكرة الشاعر، تتلمس عناصر تشابه بينهما، وهذه لا يمكن تجاهلها، إلا من وضعيٍّ مصرّ على وضعيته، وسعيد بيقينه.
كتبه
ترك جابر عصفور ما يزيد على الستين كتاباً توزعت ما بين النقد العربي القديم والبلاغة والنقد الحديث ونقد الأنواع الأدبية الحديثة، فضلا عن كتبه التي عالجت إشكاليات النهضة والتحديث والتنوير وهي التي تشكل ما يزيد على نصف هذه الكتب، ومن أشهر أعماله: «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب»، «مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي عند العرب»، «المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين»، «قراءة التراث النقدي»، «التنوير يواجه الإظلام»، «محنة التنوير»، «دفاعا عن التنوير»، «هوامش على دفتر التنوير»، «زمن جميل مضى»، «دفاعاً عن التراث»، «في محبة التراث»، «نظريات معاصرة»، «نقد ثقافة التخلف»، «تحديات الناقد المعاصر»، «جامعة دينها العلم»، «مقالات غاضبة»، «دفاعا عن العقلانية»، و«تحرير العقل».. وغيرها، وآخر ما صدر له كتاب بعنوان «متعة القص مراجعات وقراءات» عن الدار المصرية اللبنانية 2021.
جوائزه
عبر رحلة حياته العلمية والفكرية والثقافية، نال العديد من الجوائز والأوسمة، والتكريمات الرسمية والدولية، من أهمها: جائزة أفضل كتاب في الدراسة النقدية عن كتابه «المرايا المتجاورة دراسة في نقد طه حسين» من وزارة الثقافة القاهرة 1984، وجائزة أفضل كتاب في الدراسات الأدبية عن كتابه «مفهوم الشعر دراسة في التراث النقدي»، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الكويت 1985م، وجائزة أفضل كتاب في الدراسات الإنسانية، معرض الكتاب الدولي، القاهرة 1995م، وحاز الوسام الثقافي التونسي من رئيس جمهورية تونس، أكتوبر 1995م، وحصل على جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، الدورة الخامسة 1996-1997 في حقل الدراسات الأدبية والنقدية، وكان آخر ما حصل عليه من جوائز، جائزة النيل المصرية عام 2018 عن مجمل إنجازه النقدي والفكري والثقافي، وهي أرفع الجوائز المصرية التي تمنحها الدولة لأبنائها من المتميزين وأصحاب الإنجازات الكبرى.
علي بن تميم: عصفور قدم دراسات متميزة في الشعرية العربية والسرد
أكد د. علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، أن د.جابر عصفور قدم الكثير من الدراسات المتميزة في الشعرية العربية وفي السرد، مثلما قدم دراسات عديدة تناولت قضايا الفكر العربي المعاصر، وأضاف في تغريدة عبر حسابه بـ«تويتر»، قائلاً «نعزي مصر بوفاة الناقد والمفكر الكبير الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، الذي قدم الكثير من الدراسات المتميزة في الشعرية العربية وفي السرد، مثلما قدم دراسات عديدة تناولت قضايا الفكر العربي المعاصر.. رحمه الله وألهم ذويه وتلامذته ومحبيه الصبر وحسن العزاء إنا لله وإنا إليه راجعون.