بقلم: فابيان أمور
ترجمة: أحمد حميدة
بمبادرة من منظّمة اليونيسكو سنة 2005، دأب أحبّاء الفلسفة في العالم على الاحتفاء في السابع عشر من نوفمبر من كل عام باليوم العالمي للفلسفة. وقد سمح الموضوع الذي تمّ اختياره سنة 2019، «بستان الفلاسفة»، باكتشاف الفلاسفة الذين جسّموا منذ القديم الحكمة العتيقة والعريقة واللاّزمنيّة للشّعوب. ومن بين هؤلاء، فريدريش نيتشه (1844 - 1900) الذي يعتبر فيلسوفاً خارجاً عن كلّ المعايير، ومفكّراً فذّاً أثار بمواقفه التّأويلات الأكثر اختلافاً وتضارباً.
أن نعيش على نحو أفضل، فتلك إحدى غايات الفلسفة، ولكن لا يمكن أن تدرك تلك الغايات البتّة دون تحقيق كمال كلّ الأفراد الأحرار، المستقلّين بذاتهم، الذين تتشكّل منهم المجتمعات البشريّة. وفريدريش نيتشه هو بهذا المعنى، فيلسوف متفلّت عن كلّ المعايير، دأب على محاولة إرجاع قارئه دائماً إلى حقيقته الذّاتيّة. والأمر يتعلّق هنا بفكر لا يريد أن يتحوّل إلى منظومة قواعد أو إلى بزّة متلألئة قد يجد فيها كلّ منّا نيتشه الذي يريد.
ونيتشه، مفكّر قد نجده في كلّ الأكلات، وهو من بين الفلاسفة ذلك الذي أثارت نصوصه أكثر التّأويلات مفارقة. ومهما كانت الزّاوية التي قد ننظر من خلالها إلى نصوصه، فإنّنا قد نقفز من أطرف تلك النّصوص إلى أطرفها، كما لو أنّنا نقفز من مربّع إلى آخر داخل رقعة شطرنج سياسيّة وأيديولوجيّة: فقد ينسب إلى اليمين المتطرّف، إذ كان نيتشه يثني على أخلاق السّادة وينبذ خنوع العبيد، ويبدي امتعاضه من قيم الحركة الإنسانيّة ومن الدّيمقراطيّة، وقد يُعدّ يساريّاً متطرّفاً، المفكّر المتمرّد، محطّم الأوثان وعدوّ التعصّب القومي والعنصريّة،. وكان نيتشه يلهم بذلك المتحرّرين، وكذلك الباحثين عن سر المطلق، وقد يرى فيه البعض الآخر الفيلسوف المندّد بالعدميّة.
فيلسوف لا يتّسع له أيّ مربّع من رقعة الشّطرنج.
يريد البعض أن يجعل منه رائداً لعالم التّقنية والبحث عن القوّة من أجل القوّة، ولكن متى عمّقنا البحث، عثرنا في نصوصه على دعوات من أجل السّعي لإعادة التجذّر، وعيش حالة القوّة، لا كحالة تفيّض للعنف والجبروت، وإنّما كإرادة خلق لحالة من الانسجام.
وحين ينتقد نيتشه المثاليّين، نجده، وبشكل مفارق، ينتصب كأعتى المدافعين عنهم. وعندما كان يزدري المتزهّدين الذين يفنون أجسادهم في العوالم الخفيّة والمتخيّلة، نجده في المقابل يؤكّد مع ذلك أنّه لا شيء يجعل الإنسان أرفع مكانة من التزهّد. هكذا، فكلّما أرادنا حصره في زاوية، انفلت منها إلى زاوية أخرى.
ففكر نيتشه هو أبعد ما يكون عن منظومة فكريّة قائمة الذّات، ولكنّه كان مستوعباً للرّوافد المتعدّدة والمبدعة للحياة. وحسبه ذلك!
فنيتشه هو فيلسوف «الأرواح الطّليقة»، وقد يكون من باب الجنون بناء مشروع سياسيّ انطلاقاً من أفكاره، أو نظام أخلاقيّ في إطار معتقد جديد، فنيتشه ليس حكيماً، وإنّما مفكّر عبقريّ. وبمرور الزّمن، وبعد كلّ قراءة، ترانا نذهل عن كلّ الاستعارات إلى تريد اختزاله في دليل: قائد جوق المترفين، ملك المتأنّقين المغرورين، أو مثالاً للإنسان المستقوي والمتصلّب، نيتشه الثوريّ والفوضوي، نيتشه المنافح عن الأعراف والمدافع في نفس الوقت على الحداثة وما بعد الحداثة! وأسلوبه الذي يبدو أحياناً قاسياً وعديم الرّحمة، ينبغي ألاّ يحجب عنّا أنّه كان بشهادة أصدقائه المقرّبين من أكثر النّاس استقامة ولطفاً.
البحث عن الحقيقة
كلّ ما يمكن أن نحتفظ به من مواقفه، متى حرصنا على تجنّب الأفكار الجاهزة، هو أنّ نيتشه فيلسوف ينحدر من نسل الفلاسفة الكبار الذين سبقوه، وإن تصدّى لأغلب هؤلاء بنقده اللاّذع. فما كان ينشده هو الحقيقة والحقيقة فحسب. وعمله الجينيالوجي الذي كان يريد، من وراء المثل الخادعة، تشخيص حوافزه الحيويّة ودوافعه السّيكولوجيّة، التي قادت في كلّ الأزمنة إلى بناء تصوّرات رائعة ومخادعة للعالم، هي تحديداً العلامة على حاجته القصوى والملحّة للعروج إلى أرفع مدارج الاستقامة. والفلاسفة أنفسهم غالباً ما يضلّون السّبيل حين يعتقدون أنّهم قد لامسوا بعض الحقائق الكونيّة، فحين يعثرون على «الكائن» فهم في غالب الأحيان، يلقون بحالاتهم العاطفيّة عل فكرة ما. وقد لا يكون نيتشه قد تميّز عن هؤلاء، ولكنّه كان بلا ريب أكثر من الآخرين جرأة حين كان يفجّر ألعابه النّاريّة، إذ كانت أفكاره بالغة الرّوعة توقظ قارئيه، بقدر ما كانت تصيبهم بالدّهشة والذّهول. ومع ذلك، ومن وراء صورة الإنسان المهوس بإشعال الحرائق، المتأهّب لإضرام النّار في لافتات الأفكار الجاهزة، يتخفّى عاشق للحقيقة، كان على غرار الباحث عن مكامن الذّهب، يغربل الأنظمة القيميّة، علّه يكتشف ما ندر من الشذرات التي تجرفها أمواج تاريخ الفكر البشري.
نحن نحتاج، كيما نستنير بإرثه، إلى أنظمة فكريّة، إلى رؤى ذهنيّة للعالم، حتّى وإن كانت مبسّطة وخادعة، ولكن متى اختنقنا داخل الإطار الذي يحيط بأفكارنا، فلا سلوى لنا أفضل من ترياق نيتشوي ! أن نحطّم ما هو قائم ونعيد بناء ما يكون أكثر تسامياً، وتلك كانت هي اللاّزمة الأثيرة لدى فيلسوف المطرقة. وكما أكّده هو نفسه في «هكذا تحدّث زرادشت»: «إنّي لأحبّ الكنائس وأضرحة الآلهة، حين تتأمّل السّماء بعين صافية عبر قبابها المتشظّية، وإنّي لأعشق الجلوس على حطام المعابد المدمّرة، الشّبيهة بعشب متلألئ وإلى الخشخاش الأحمر، فكيف لي ألاّ أشعر بالأبديّة وهي تتوهّج بداخلي؟ كيف لي ألاّ أكون متوّهّجاً بخاتم الأختام العرسيّ.. خاتم الصّيرورة والعودة؟ لم أعثر قبل الآن على المرأة التي قد تنجب لي أطفالاً، اللّهمّ تلك المرأة التي أعشق، لأنّني أعشقك أيّتها الأبديّة!».
في مجتمعاتنا المروّعة بشبح الانهيار، لعلّ قراءة نيتشه، في اليوم العالمي للفلسفة، تكون مسعفة لتغيير نظرتنا للعالم من حولنا، لا لتلافي ما بات حتميّاً، ولكن لنظلّ منتصبين ونحن مبتهجون وسط الخراب، بأعين مفتّحة وغير ذاهلة عن السّماء المرصّعة بالنّجوم!