إيهاب الملاح
موعد آخر مع التاريخ والحضارة وعظمة الإبداع الإنساني، منذ أقدم العصور، على أرض مصر وفي أقصى الصعيد مهد الحضارة الفرعونية العريقة، وبعد ما يقرب من 4000 سنة كاملة، يعيد المصريون إحياء طريق الملوك الشهير بـ «طريق الكباش المقدس» الواصل بين معبدي الكرنك والأقصر الأثريين (من الجنوب إلى الشمال بموازاة النيل)، وهو الطريق والممر الديني الأقدم في التاريخ بطول 2700 متر وعرض (76-126) متراً، تحفُّ به من الجانبين تماثيل أبي الهول الشهيرة برؤوس كباش، رموز الخصب والنماء عند المصريين القدماء.
الحفل الذي أبهر الدنيا، وشهده مئات المراسلين والكاميرات من جميع أنحاء العالم، أبرز عظمة وحيوية واستمرارية «الأقصر» المدينة/ المتحف العالمي المفتوح، واحدة من أكبر مناطق الآثار الحية في العالم، ونموذج مدهش للتعايش والاستمرارية، والانفتاح على الآخر وحب الحياة.. إنها الأقصر/ طيبة العظيمة ذات المسلات والأعمدة ورؤوس النخيل على ضفاف النيل المقدس مانح الحياة وواهب الخلود.
بعد أن قدّم المصريون واحدة من كرنفالات العالم المبهرة في «موكب المومياوات الملكية» الذي تابعه الملايين على شاشات الفضائيات والسوشيال ميديا في أبريل الماضي، تجدد العرض هذه المرة بالافتتاح العالمي لطريق الكباش الملكي، وبحضور فخامة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وحرمه، وكبار رجال الدولة المصرية، وشخصيات عامة ومرموقة، مصرية وعربية وعالمية، بإحياء كرنفال عيد «الأوبت» الفرعوني القديم الذي كان يمثل احتفالية دينية وملكية بمناسبة ميلاد آمون، وصعود فيضان النيل، ويتزامن مع جلوس الملك/ الفرعون «ابن آمون» على عرش مصر.
وبإبهار بصري وضوئي غير مسبوق، أدى أوركسترا وكورال الاتحاد الفيلهارموني بقيادة الموسيقار نادر عباسي عرض «موكب طريق الكباش»، تأليف موسيقي مشترك (أحمد الموجي ونادر عباسي)، بالاشتراك مع 160 عازف إيقاع، مكون من مجموعة شباب إيقاعات الچيمبي المصري، وإيقاعات الموسيقات العسكرية، بقيادة وإخراج موسيقي لجميع العناصر الموسيقية للعرض الخاص بالموكب: الموسيقار نادر عباسي.
تخلل العرض أداء أنشودات فرعونية قديمة، غنى النداء الأول منها (صوليست الغناء شهد عز)، وأنشودة حتشبسوت بالهيروغليفية القديمة (صوليست الغناء هايدي موسى)، فيما أدى السوبرانو عز الأسطول أنشودة «آمون رع»، وقدمت المغنية هند الراوي أغنية «أحلى بلاد الدنيا بلادي». واختتم المطرب وائل الفشني الاحتفالية بغناء «الأقصر بلدنا» (من تراث رقصات فرقة رضا للفنون الشعبية، تلحين الموسيقار الراحل علي إسماعيل، وغناء محمد العزبي) الذي أعقبه انطلاق الألعاب النارية في سماء المدينة، احتفالاً وابتهاجاً بافتتاح طريق الكباش.سبق الاحتفال الاستعراضي الغنائي عرض فيلم تسجيلي وثائقي عن مدينة الأقصر وتاريخها ومعالمها، منذ كانت تسمى «طيبة» في عصور الدولة المصرية القديمة (آلاف السنين قبل الميلاد) وصولاً إلى الحالة الفريدة من التعايش السلمي والإخاء الإنساني على أرضها الآن، من كل الديانات والأعراق والجنسيات والألوان.. إنها بحق أنشودة في المحبة والإخاء والإنسانية.
لمحة تاريخية
يمثل الطريق الذي تم اكتشاف طرفه الجنوبي عام 1947 بتماثيل أبي الهول برؤوس الكباش التي تحد جانبيه (كانت مطمورة تماماً تحت الرمال)، واحداً من أقدم الممرات الطقسية والدينية في تاريخ العالم، وقد أخذت الدولة المصرية في العمل الجاد لإعادة إحياء هذا الطريق في العقد الأول من الألفية الثالثة (2007/ 2008)، ثم توقف العمل في 2011، وأعيد إحياء المشروع مجدداً واستئناف العمل فيه في 2017 بمتابعة شخصية من رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، والأجهزة المعنية.
يربط طريق الكباش بين معبدي «الكرنك» و«الأقصر»، من الجنوب إلى الشمال بموازاة النيل، بطول ثلاثة كيلو مترات تقريباً، وكان يمثل المسرح الحي الذي تجري على خشبته طقوس الاحتفال بعيد الأوبت (Opet) أو عيد صعود فيضان النيل، بالتزامن مع عيد جلوس الفرعون المصري على عرش مصر. وتوضح كتب التاريخ المصري القديم أن قدماء المصريين كانوا يحتفلون في هذا العيد أيضاً بمولد الإله (آمون) أشهر وأقدس الآلهة الفرعونية القديمة، باستعمال مركب يحملونه على أكتافهم، ويطوفون به المدينة ذاهبين به في اتجاه معبد الكرنك، وذلك لنقل تمثال الإله آمون من الكرنك في رحلته السنوية أثناء عيد الحب «الأوبت» إلى معبد الأقصر.
هذا العيد الذي وصفته الكتب المخصصة لدراسة عادات وطقوس وتفاصيل الحياة اليومية في مصر القديمة، كان من أشهر الاحتفالات الكرنفالية في الدولة الوسطى والحديثة بمصر القديمة، وكان يقع خلال الشهرين الثاني والثالث من الفيضان، أي في الوقت الذي تصل فيه مياه الفيضان إلى أقصى زيادة، ووقتها لا يستطيع الفلاحون الزراعة، ويتوقفون عن العمل، وحينها لا يصبح التنقل بالقوارب سهلاً ميسوراً في مجرى النيل الكبير فحسب، بل أيضاً في القنوات الضيقة وخارجها، لأن الأرض كلها تصبح مغمورة بالمياه، بفضل ارتفاع منسوب النيل.
نقطة انطلاق الموكب الاحتفالي تبدأ من مجمع معابد الكرنك، بأعمدته الدائرية الشاهقة والمسلة الشامخة التي تقبع في صدارته، والحقيقة أنها لم تكن مسلة واحدة بل مسلتان، تحكي لنا كتب التاريخ والآثار المدونة على جدران المعابد، أن الملكة حتشبسوت شأنها شأن ملوك مصر العظام كانت تفكر فيما يخلد اسمها بعد موتها، وذكراها على مر العصور، غير معبدها الشهير في الدير البحري، فتخبرنا المرويات التاريخية والأثرية كيف أنها كانت جالسة يوماً في قصرها تفكر في خالقها، حين لاح لها فجأة أن تشيّد مسلَّتين شاهقتين أمام معبد الكرنك، وقد أمرت بتنفيذ الفكرة، وفي الحال سافر مهندسها الماهر «سننموت» إلى أسوان، وقطع من حجر الجرانيت ما يكفي لتشييد المسلتين الشاهقتين، وأتى به عن طريق النيل.
أما هاتان المسلَّتان اللتان شيدتهما حتشبسوت فلا يقل ارتفاع الواحدة منهما عن ثمانٍ وتسعين قدماً ونصف القدم، وتزن كل منهما ثلاثمائة وخمسين طنّاً، وقد استغرق المهندس المصري العبقري في نقل الحجارة من أسوان إلى «طيبة»، وفي صنعهما، سبعة أشهر..!
ولا تزال إحداهما باقية إلى الآن في الكرنك، وهي أطول مسلة في المعبد، أما الأخرى فقد تهدمت، وتكومت أطلالها بجانب المسلة الباقية، وهما تدلان دلالة واضحة عما كان عليه المصريون من التقدم العقلي والفني في عهد تشييدهما.
أجمل المعابد
تصل رحلة الموكب إلى نهايتها بالوصول إلى معبد الأقصر الشهير الذي كان قد افتتح سنة 1975 أثناء زيارة جيسكار ديستان رئيس جمهورية فرنسا لمصر، ربما كان معبد الأقصر أحد أجمل وأبهى المعابد الأثرية في العالم، أسسه الملك أمنحوتب الثالث، واستكمله من بعده توت عنخ آمون، ثم رمسيس الثاني.
وكما وُجدت مسلتان شاهقتان أمام الكرنك لم يتبق منهما سوى واحدة فقط، كذلك الأمر أمام مدخل (معبد الأقصر) كانت توجد مسلتان اثنتان، يقول عنهما الكاتب الفرنسي روبير سوليه إنه تم التفريق بينهما خلال السنوات (1830-1836) إذ قدَّم محمد علي باشا إحداهما إلى فرنسا (الملك لوي فيليب)، وهي التي تقبع حالياً في قلب ميدان الكونكورد الشهير بباريس، أما الثانية فما زالت واقفة بشموخ وثبات، وحيدة في مكانها القديم، أمام مدخل المعبد. ويذكر أن من ضمن أبرز آثار متحف الأقصر اللوحة الحائطية المذهبة للفرعون المصري أمنحوتب الثالث وزوجته، وتمثال تحوتمس الثالث الجرانيتي الذي يعد أحد أروع التماثيل الفرعونية، وهو تحفة فنية رائعة، بالإضافة إلى مجموعة من بلاطات معروفة منذ العصر اليوناني الروماني باسم «التلاتات»، اكتشفت في معبد الكرنك، وكانت ضمن معبد أقامه إخناتون الذي كان يعبد آمون في بداية حياته إرضاء لوالده، ثم تحول إلى عبادة الإله الواحد، إله الشمس آتون، فاعتبروه كافراً مهرطقاً، وحطموا معبده.
«الصرح الأعظم»
كان الاحتفال بالعيد الجميل لآمون في أوبت، يفوق كثيراً احتفال المعبودات الأخرى، إذ إنه كان احتفال الشعب بأكمله.. تبدأ احتفالات العيد من معبد الكرنك، حيث يأخذ رجال الدين في الاستعداد للموكب، وكانوا يتوجهون داخل قاعات المعبد بحثاً عن المراكب المعدة الموضوعة على قواعدها، والقوارب التي سيتم حملها والخاصة بمعبودات طيبة، وكان أكبر هذه المراكب مراكب آمون التي كان يتقدم طرفها الأمامي رأسا كبشين وهما اللذان يزينان مقدمة المركب ومؤخرها.
وتستقبل المقصورة المقدسة بمعبد الأقصر تمثال آمون المحمول بجلال وقداسة على المركب الملكي، ليسكنها مرة واحدة كل عام لعدة أيام، تمتد هذه الرحلة بموازاة النيل على عكس المعتاد في تصميمات الفنان والمهندس المصري القديم، ذلك أنه عادة ما تكون المحاور الرئيسة للمعابد متعامدة على مجرى نهر النيل، متخذة بذلك محور الاتجاه من الشرق إلى الغرب.
أما في معبد الأقصر، فإن المحتفلين بالأوبت وجمهور الموكب كانوا يدخلون إلى المقصورة مروراً بالطريق الموازي للنيل، وهو الطريق الملكي أو طريق الكباش المقدس، وكان مخصصاً للمواكب الدينية (دروموس)، وصُمم الطريق الذي تحف به من الجانبين تماثيل أبي الهول الحجرية (برؤوس كباش رمز الإله آمون وهو في الوقت ذاته إله الخصب والنماء عند قدماء المصريين) بحيث يرى الزائرون المتجهون من معبد الكرنك إلى معبد الأقصر، وهم لا يزالون على بعد كبير، الشكل الخارجي المميز للبوابة الحجرية الهائلة الضخامة لمعبد الأقصر، أو كما كان يُعرف قديماً باسم «الصرح الأعظم».
وهكذا تنتهي الرحلة الأسطورية التي حاكاها المصريون أحفاد الفراعنة في احتفالية افتتاح طريق الكباش العظيم.