إبراهيم الملا (الشارقة)
«ليس بعد الشعر سوى الصمت، كيف يمكنني الكلام بعد أن يتحدث الشعر، إنه دليلنا في عتمة العالم، وعندما تضيق علينا الغرف، وتحاصرنا الأزمات، يتحول الشعر إلى ضوء، يشعل فينا فوانيس الحب، ويهبنا ثمار الحكمة، نقرأ الشعر، فيتركنا هناك في المتاه، وهذا جمال الشعر الحقيقي الذي يتم العمل فيه تحت ظلال التوق والصبر، غرباء نحن بالشعر، ومن دون الشعر» هكذا قدّم الشاعر والباحث خالد البدور رؤيته وتوصيفه لأبعاد وأصداء ومناخات الشعر، في مستهل جلسة حوارية نظمها، مؤخرا، اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في معرض الشارقة للكتاب، تحت عنوان: «الشعر الإماراتي الفصيح من السبعينيات وحتى اليوم – مشهد متغيّر -».
قدّم للجلسة وأدار نقاشاتها القاص والكاتب محسن سليمان، الذي ذكر أن البدور له قراءات مميزة للموروث الشعبي والشفاهي في دولة الإمارات، كما أن مجموعته الشعرية الأولى «ليل»، فازت في العام 1992 بجائزة يوسف الخال للشعر، كما أنه صاحب تجربة ثرية في الإعداد والبحث والتحضير للكثير من البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية المتماسة مع ذاكرة المكان.
وأشار البدور إلى أن اختياره لنماذج شعرية من قصائد الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، والشاعرة نجوم الغانم، جاء بسبب مساهمتهما المبكرة والمؤثرة في المشهد الشعري الفصيح في دولة الإمارات، وخصوصا ما يتعلق بقصيدة النثر، والتي عانت في بداياتها من الإنكار والتهميش، مضيفا أن استشهاده بهذين الصوتين الشعريين، لا يعني تغييب أسماء أخرى أثرت ساحة الشعر الحديث في الإمارات، مثل: عبدالعزيز جاسم، والراحل ثاني السويدي، وعادل خزام.
وأكد أن اختيارهما جاء بسبب قربه من تجربتهما الشعرية. وقال: «مع تلك الغابات الكثيفة للمشاعر، لا يمكننا إدراك الأعماق السحيقة التي يذهب بنا الشعر إليها، من يصبح الشعر سكنه ووطنه وكوخه الأخير، مثل: أحمد راشد ثاني، سنراه يحمل شعلةً يضيء بها الدروب الحالكة، ومن تسكن جزر الشعر وتضيء الشموع على شواطئ حكايا الجنيّات والملائكة مثل: نجوم الغانم، ستغدو من ينقذنا حين تنتحب قلوبنا من الحبّ، وتمطر السماء دموع الحنين».
واستعاد البدور قصائدهما وسط ترانيم عذبة، استخلصت الإيقاع السحري والمتواري في ثنايا قصيدة النثر، والتي استطاع الشعراء الجدد في الإمارات ابتكار خصوصيتها الممتدة من أوّل البحر إلى آخر الرمل، ومن شهقة الماء في «نهمة» الغاصة، إلى رغاء الإبل في «تغرودة» البدو.
وحول سرّ ارتباط شعراء الفصحى بالإمارات وشعراء الحداثة تحديدا، مع الشعر الشعبي والعامي وإنتاجهم لها ضمن تجاربهم الشعرية، وارتباطهم كذلك بالسرديات التراثية، وبشعراء النبط القدامى والملهمين مثل سعيد بن عتيج الهاملي، وكذلك الماجدي بن ظاهر كنموذج، أوضح البدور أن تجربة ثاني الطويلة والممتدة في تعاطيه مع فضاءات ابن ظاهر، ومع الشعر العامي والتراث الشعبي والسرد الشفاهي، خير مثال للإجابة على هذا السؤال، مضيفا أن جمع ثاني للحكايات الشعبية، وانغماسه البحثي في السيرة الأسطورية والإبداعية للماجدي بن ظاهر، لم يأتيا من فراغ، فهو ينظر إلى الشعر كذاكرة متطورة، وعمل من خلال مشروعه البحثي والتوثيقي الضخم هذا على استدعاء الخلفيات التاريخية وتحليلها وفهم دوافعها ودورها في ظهور التجارب الأدبية الفارقة والاستثنائية في الإمارات ودول الخليج.
وفيما يخصّ الجماعات الشعرية التي تكوّنت في المشهد الأدبي في الدولة نهاية الثمانينيات، وتأثيرها في الحراك الثقافي حينها، أوضح البدور أن الجماعات الشعرية والفنية في العالم تستقطب الأرواح المتشابهة في رؤيتها الإبداعية، واجتماعها تحت مظلة مشتركة دليل على رهانها على صوتها المختلف، مشيرا إلى انضمامه إلى جماعة «رماد» في أواسط الثمانينيات مع الفنان الراحل حسن شريف والشاعرة نجوم الغانم والقاص السوداني الراحل يوسف خليل. وأوضح أن «رماد» كانت أشبه بالمختبر الإبداعي لإطلاق الشرارة الأولى للتجارب الفنية والأدبية والشعرية المعاصرة بالمكان، مضيفاً أنها كانت محاولة للتعبير عن الصوت الآخر، وتحريك السائد والراكد في الثقافة المحليّة. وقال إن ما يكمن وراء النص، هو المحدّد لقيمته وحضوره وتأثيره، ولذلك ستبقى التجارب الشعرية الجديدة متوهجّة وحيّة، ما دامت مرتبطة بثراء التجربة الشخصية والثقافية والإنسانية للشاعر نفسه.
وعن راهن ومستقبل قصيدة النثر في الإمارات، أوضح البدور أن الاستسهال عدو الإبداع في كل حقوله وتفرعاته، فالشعر الحقيقي عمل يستند إلى فكر متجاوز، وعمق روحي، وفلسفة مستنيرة، ورؤية نقدية وجمالية للحياة والوجود، مضيفا أن التجريب المجاني في الشعر، والذي لا يوجد خلفه موقف فكري وحكمة إنسانية وقراءة بصرية وافية، لن يؤدي إلى نتيجة، وسينتهي للفراغ والنسيان.