السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حنا مينا.. رائد أدب البحر

حنا مينا.. رائد أدب البحر
28 أكتوبر 2021 01:03

محمود اسماعيل بدر

يعدّ الروائي السّوري حنّا مينا (29 مارس 1924 – 21 أغسطس 2018)، واحداً من الكتّاب الأوسع انتشاراً في العالم العربي إلى جانب نجيب محفوظ، وعبدالرحمن منيف، والطّيب صالح، وغيرهم من أساطين الرواية العربية، وتعود شهرته الأدبية إلى معطيات كثيرة أبرزها ثيماته الواقعية وأسلوبه السّردي السلس، وصوره الفنية الجديدة والمعاصرة، وشخصياته المألوفة التي تشعر القارئ بأنه يعرفها جيداً، كونها منبثقة من بيئته الاجتماعية التي يعيش فيها، وانشغالاته كروائي بالكتابة عن الصراع الطبقي وناس قاع المدينة، حيث تميز باختيار معظم أبطاله من حواري وأزقّة مدينته الساحلية «اللاذقية»، من دون أن يعمد حتى إلى تغيير أسمائهم، بجانب تخصصه تحديداً في الكتابة عن البحر، الذي هو كما يقول «واكيم أستور» في تقديمه لرواية «الدّقل» 1982، الميدان لكل الصراعات، ثم تركيزه في متلازمتي «البحر والمرأة»، في أعماله، أو كما قال: المرأة بحر، والبحر امرأة في المحصلة التخييلية، وكلاهما صاخب ودود وقاس، كل منهما ميدان لأبطالي ومحرك روائي، ولعل هذا هو ما مهد له الطريق إلى الشهرة عالمياً. وتكفي الإشارة هنا إلى أعماله الرفيعة: «الشراع والعاصفة، الثلج يأتي من النافذة، ثلاثية بحار، نهاية رجل شجاع، حمامة زرقاء في السّحب، تحت الثلج، المرأة ذات الثوب الأسود، الميناء والبحر، الياطر»، لنكتشف مدى أهمية «ثيمة البحر» التي كانت مصدر إلهام وعشق له، تحت مظلة مثلث انفرد به عن أبناء جيله، وتمثل أضلاعه: المرأة، البحر، والحساسية الاجتماعية الوطنية، فقد قال غير مرّة عن البحر «إن البحر مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب»، وقال في المرأة «لو خيروني بكتابة شاهد على قبري، لقلت لهم أكتبوا هذه العبارة: المرأة.. البحر.. وظمأ لم يرتوِ»، ساعياً في رواياته للاحتفال بإصرار الإنسان وصلابته في مواجهة الطبيعة.
ما أن تجري استعادة حنا مينا، الذي عمل في حياته حمّالاً في ميناء اللاذقية، وحلاّقاً وبحاراً وموظفاً حكومياً، إضافة إلى تقاطعه مع العمل الصحافي والنضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، إلاّ ويلحق به توصيف «رائد أدب البحر» كمشروع أدبي عربي منفرد، ويعني اصطلاحاً تلك الأعمال التي يكون البحر إطارها وفضاءها وفاعلاً فيها، غالباً فوق سفينة، أو مركب، حيث كانت كل أحداث رواياته تقع على تخوم البحر لا داخله، ويكون المكان المحوري، مع تماهيات أمكنة محيطة معتادة مثل الموانئ والمقاهي الصغيرة والبيئات المحيطة بها، ومنها يذهب السّرد في مسالك نفسية واجتماعية وثقافية وذهنية شتّى، ومن ذلك روايته «الشراع والعاصفة» التي تحكي قصة بحار يدعى محمد بن زهدي الطروسي، الذي فقد مركبه الصغير إثر عاصفة هوجاء، وعاد إلى الشاطئ وفي جعبته أمنية واحدة هي العودة إلى البحر على متن مركب جديد، وحتى ذلك يعيش على مردود مقهى بدائي بناه على الشاطئ في جوف صخره، وأثناء مقامه على اليابسة سيكون شاهداً على أحداث متنوعة، أهمها تعرّفه على المناضل ضد الاستعمار الفرنسي «كامل» الذي اكتشف من خلاله أهمية النضال والدفاع عن الأرض والشرف وكرامة الإنسان ووطنيته الصافية، ليعود من جديد إلى مصدر عشقه الأول «البحر» مسلحاً بفكر وثقافة ورؤيا جديدة تضع كرامته ووطنيته على حد السيف!

وقد كرّس مينا من خلال روايات «أدب البحر» مفهوماً جديداً يعنى بثقافة التصالح والتقريب بين الأمم، على اعتبار تناوله بالدرجة الأولى حياة البحارة وصيد الحيتان ومغامرات القراصنة ورحلات المكتشفين والتّجار، وكل هؤلاء كانوا من المغامرين ورسل اليابسة إلى الماء، ومن الطبيعي أنهم كانوا في رحلاتهم المريرة، قد أسهموا بتعريف الأمم بعضها ببعض، بل وفي تقريب وجهات النظر فيما بينهم، بجانب التمازج الثقافي والحضاري والإنساني، ولهذا رصد مينا حسب قوله في أدبه «البحار الإنسان» المغامر الذي يخوض معركة فروسية مع البحر، وصلة هذا البحر بالموانئ وما فيها من طيبة ووحشية ورومنطيقية وواقعية، وهذا كلّه تم تلخيصه في قول «الطروسي» بطل رواية «الشراع والعاصفة» الذي أوجز تجربته في هذه العبارة: «الحياة كفاح في البحر والبرّ».

الانتصار للمهمشين
قال مينا في وصيته التي نشرها قبل سنوات من الرحيل، إنّه شبع من الحياة، وأصبح يخاف أن لا يموت، وربما لم يكن الرجل مخطئاً، فهو غير قابل للموت المعنوي، بعد أن ترك لنا ما يظن استمراره لأجيال قادمة، فقد منح بسخاء للذاكرة السورية والعربية والإنسانية ميراثاً حيّاً قائماً وشامخاً، يضعه في المراتب العليا بين كُتّاب الرواية والأدب، فعالم البحر جعل منه كاتبه وكاشف أسراره، وكان في الأفق الإبداعي ثيمة جوهرية في جهده الروائي، إلى درجة أنه لا يمكن تخيل أعماله خارج منطق البحر وجبروته وغموضه، ولكنه في النهاية المنتصر بقوة للإنسان المهمش، وقد صاغ خلال نصف قرن أكثر من 40 رواية ربما لا يعرف الكثيرون أن في جنباتها حكاية رجل لم يختلف عليه النقاد في آن واحد من أكثر كتاب الرواية تأثيراً ومعاصرة وجدّية، كما كتبوا عن ذاكرته واستثماره النوعي لسيرة حياته في صياغة بعض القصص التي لقيت رواجاً كبيراً، ومنها قصته «على الأكياس» وقد حكى فيها جزءاً من سيرته حمالاً في ميناء اللاذقية، وكيف كان يكتب محاولاته الأولى على الأكياس، سيرة لا تخلو من بوح جميل ومكاشفة ومواجهة، كما يبدو لنا في روايته الأولى «المصابيح الزرق» 1959، وكيف يرصد عبر مقاربات سردية أحوال حي القلعة الفقير أثناء الحرب العالمية الثانية، فاتحاً الطريق لسرد حكائي جديد ومشوّق وواقعي من السهل الممتنع.

 وصية غريبة 
ومن أهم الكتب النقدية التي صدرت عن تجربة الكاتب، ما نشره الناقد مهدي عبيدي، تحت عنوان «جماليات المكان في ثلاثية حنا مينا - حكاية بحار، الدّقل، المرفأ البعيد»، وقد أنجزها مينا بين (1981 - 1983) وسعى من خلالها إلى رسم ملامح وقضايا المجتمع السوري في إطار شامل منذ منتصف الثلاثينيات إلى بداية السبعينيات، وقدّم من خلالها رؤية معاصرة للبطل الإيجابي، والبطل الإشكالي، مع التركيز على تنوع الأمكنة وهويتها في إطار إنساني. وقد شكلت عنده فضاءً روائياً يحرك بالضرورة الأحداث والشخصيات وسبل تحوّلها في ضوء الراهن، الذي لم يكن عنده منعزلاً عن باقي عناصر السرد، وإنما يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية كالشخصيات والأحداث والرؤية السردية.
وقبل عشر سنوات من رحيله كتب مينا وصية غريبة يطلب فيها عدم الإبلاغ عن موته ودفنه في قبر مجهول: «لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، ولا حفلة تأبين، فكلماتها بالنسبة لي منفّرة مسيئة إليّ، أستغيث بكم أن تريحوا عظامي منها».. هذه هي وصية الأديب العربي الغائب الحاضر، الذي نتذكره ضمن أيقونات الرواية العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©