الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عوشة الرميثي.. بنت شملان

عوشة الرميثي.. بنت شملان
11 سبتمبر 2021 00:08

إبراهيم الملا 

يا بدر شوف الحظّ تدبير / عنّي وخرّ النجم من فوق 
شطّ النيا وابعد هل الخير / والنفس كفّت دون لعلوق 
من عقب خِلٍّ لي مظاهير / تبع الهوى والودّ مرفوق 
أضحك وأسلّي القلب بالغير / والدمع منّي خرّس الموق

تستدعي المخيّلة الشعبية بالإمارات صوراً وشواهد ومواقف عديدة، كانت فيها المرأة مثالاً للتحدّي والإصرار وإثبات الذات، خصوصاً في الأزمنة المبكرة، حيث بدايات تشكّل الوعي الاجتماعي، وحيث الإرهاصات الأولى للحراك الاقتصادي المتنامي بين السواحل من جهة، وبين الواحات والمزارع الداخلية من جهة أخرى، حيث وقف الأنموذج النسائي في تلك الفترة وسط الحراك المحتدم كي ينظّم إيقاعه ويحدّد تفاصيله ويوجّه مساراته، انتبهت المرأة الإماراتية لقيمة هذه المشاركة بسبب تقاسمها المسؤولية مع الرجل، وبسبب انخراطها المباشر في إدارة شؤون الحياة، انطلاقاً من العائلة، ووصولاً إلى المجتمع الحيّ والحيوي المحيط بها.
عندما تتناغم الموهبة الشعرية للمرأة مع تأثيرها المجسّد والملموس في الواقع، فإن المحصّلة تكون زاهية ومثمرة وفارقة، ومن أبرز الأمثلة في هذا السياق، الشاعرة عوشة بنت سعيد بالحصم الرميثي، المعروفة بلقب: «بنت شملان» والتي عزّزت حضورها الاستثنائي في أبوظبي القديمة «نهايات القرن التاسع عشر» من خلال اختراقها المنظومة التقليدية، وتصدّيها لمهن شاقة، وانغماسها في العمل اليدوي والنشاط البدني، من دون كلل أو تراجع أو استسلام لواقع فرضته الظروف، وأملته التقاليد، وبجانب كل ذلك امتلكت عوشة الرميثي قدرات ذهنية عالية، وإمكانات تعبيرية جامحة، أهّلتها لنظم القصائد اللافتة، سواء فيما يخص توثيق الأماكن والمواقع الجغرافية أو ما يتعلّق بعرض انطباعاتها الذاتية حول مجريات الأحداث في محيطها، وكذلك ما يتعلق بترجمة أحاسيسها الشخصية ومشاعرها الحميمية. وفي القصيدة أعلاه، نتلمّس مدى اقتران شعر «بنت شملان» بالجاذبية اللغوية المتشعّبة في ثنايا الوصف والتركيب والبناء والتخيّل، فهي تختار القصيدة المصاغة بأسلوب «الرّدح» لتمنح المتلقّي فضاءً سمعياً تنساب فيه الأصداء والهمسات والخلجات، كما تمنحه أيضاً فضاءً بصرياً نابضاً بالحركة وجماليات التباين وبالصور المشخّصة والأخرى المجرّدة، وتضيف على هذه الكتلة «السمعية/ البصرية»، نكهتها الأنثوية الخاصة والمطرّزة بالإشارة والرمز والإيحاء.

تخاطب عوشة الرميثي في مطلع القصيدة ما يمكن وصفه بالضمير المستتر في «الأنا» أو في «الذات» كي تتجنّب البوح المباشر، وكي تراوغ الاستدلال الملحوظ، قائلة: «يا بدر شوف الحظّ تدبير / عنّي وخرّ النجم من فوق» وكأنها تعاتب كياناً افتراضياً تسبّب في حرمانها من غنيمة الوصل بعد أن كانت على وشك نيل مرادها، وقد يكون سبب هذا الحرمان هو سوء الحظّ أو سوء الطالع، وفي تشبيه رائع تصف «حظها» في بداياته وكأنه النجم العالي، ولكن المطاف انتهى بحظّها إلى الانطفاء والسقوط والخفوت، لتسترسل بعد ذلك في وصف مسار وشكل وحجم هذا الخسران، قائلة: «شطّ النيا وابعد هل الخير / والنفس كفّت دون لعلوق»، حيث لم يعد هناك ما تستند إليه، فلا معين لها، ولا منجد ولا مسعف، إنها تقف وحيدة في قلب الحيرة والمتاهة والبلاء، ولا توجد غاية تتعلّق بها، أو منفذ تهرب من خلاله إلى مكان مغاير ومحلّ جديد، «من عقب خِلٍّ لي مظاهير / تبع الهوى والودّ مرفوق»، «أضحك وأسلّي القلب بالغير / والدمع منّي خرّس الموق» ونرى في هذين البيتين تصويراً قاسياً لما آلت إليه أمورها، وما ترتّبت عليه أحوالها، فبعد أن كانت هانئة بوضعها السابق ومشاركة أوقاتها مع من تحبّ،  ها هي تشتكي العزلة والوحشة وها هي دموعها الشائكة تحفر في الخدّ، توغل في إيلام القلب.
أما الأبيات التالية من القصيدة، ففيها الكثير من التراكيب الشعرية المدهشة، رغم صعوبة الموقف وازدحام الأسى وتكالب المواجع، وهي أبيات تفيض بالشكوى والامتعاض، ولكنها تفصح في الوقت ذاته عن موهبة فذّة في انتقاء الكلمات وفي الترجمة الصادقة والشفّافة لتبعات الفقد والهجر والانقطاع المرّ عن الأحباب والخلّان، تقول عوشة الرميثي: 
بتبع ظعون الحيّ با سير 
 با صيح وأنادي شرا طوق 
شروات لي طايح وسط بير
 ما بين يد سابق ومسبوق
حذره ولا يتني محاذير 
 يا ويل يا من وِخِذ بالبوق
من لوم قلبي وين با طير 
 ولي صابني ما صاب مخلوق
أبغي العذر ما لي معاذير
 جرح التلف ما فيه ملحوق

شاعرية فذّة
ولدت الشاعرة «عوشة بنت سعيد بالحصم الرميثي» في جزيرة أبوظبي عام 1884، وعاصرت عهد الشيخ زايد بن خليفة الذي حكم إمارة أبوظبي في الفترة من 1885 وحتى 1909، ويشير الدكتور راشد أحمد المزروعي في دراسة له عن الشاعرة عوشة الرميثي، أنها اشتهرت باسم «بنت شملان»، الذي اختارته كاسم مستعار، وشملان هو اسم الجمل الذين كانت تملكه، والذي لازمها طويلاً، واستعملته في قضاء شؤونها ومساعدتها في نقل المياه، ونقل المسافرين من جزيرة أبوظبي إلى مناطق المقيظ الداخلية، مثل العين والبريمي وغيرهما، ويضيف المزروعي أن بنت شملان كانت من أشهر شاعرات أبوظبي في القرن الماضي، حيث يدلّ ما تبقى لدينا من قصائدها التي يحفظها الرواة، على شاعرية فذّة وقويّة، وتؤكد أن لها قدرة كبيرة على تصوير المعاني التي تريدها بطريقة جميلة، سهلة وسلسة، وكلمات عذبة تنبع من البيئة والتراث، فتطرب لها الآذان، ويحلو سماعها وتطرب قائلها أو راويها، وتنساب بصورة عفوية لها ذوق رائق، وطعم خاص.
ويذكر المزروعي أن عوشة الرميثي توفيت عام 1925م في فترة حكم الشيخ سلطان بن زايد في منتصف العشرينيات الماضية ولم يتجاوز عمرها 40 عاماً، ورحلت وهي في أوج عمرها وشاعريتها، وبناء على ذلك يمكن أن نعدّها من شعراء النصف الأول من القرن العشرين المنصرم. ويصف المزروعي شعر عوشة الرميثي بأنه يزخر بالتغنّي بالبيئة دوماً وبالأرض والبحر «الخور» والبرّ والإبل وركوبها وأوصافها، مضيفاً أنها أبدعت كثيراً في وصف الإبل ولا تخلو قصائدها من هذا الوصف، ويوضّح المزروعي أن كل أشعارها تقريباً نظمت على فن «الردح» الذي يصلح للغناء والرزيف والشلّات، وهذا دليل على تفوقها في هذا المضمار، وأن أغلب شعرها قيل في مناسبات اجتماعية مهمة تتعلق بأيام ومشاهد المقيظ والحضّارة، التي طالما حنّ إليها الأهالي كباراً وصغاراً، وتمنّوا عودتها ليعايشوها ويرصدوها بأعينهم، وعزاؤهم الوحيد في ذلك حفظ الأشعار التي تمجّد تلك الأيام الخوالي، مثل أشعار «بنت شملان» وعفراء بنت سيف المزروعي، وسعيد بن هلال الظاهري، وأحمد بن فاضل المزروعي، وسالم الكاس، وعوشة بنت خليفه، وغيرهم. 

روح الأمكنة
لم توثق الشاعرة عوشة الرميثي جغرافية الأمكنة فقط، ولكنها استنبطت من هذه الأمكنة دفقها الروحي، وبريقها الإنساني، وإشراقتها الوجدانية كمواقع مضيئة في سجلّات الذاكرة، ودفاتر الحنين، تستدعي عوشة الرميثي أمكنتها الأثيرة، وتمنحها ما تستحق من مديح آسر، واشتياق مضاعف، وتصوير بديع، حيث تقول في قصيدة لها بعنوان «درب الحساحيس» نسبة إلى منطقة «الحسحسة» التي تستريح فيها القوافل:
«حافظ على درب الحساحيس / لي مرّحت فيه الذلايل
تلقى الكرامة عندهم طيس / يتزاقرون أهل الفوايل
برح المحلّي والمغاميس / والسّمن فوق القرص سايل
وان صبّحوا به دار «لخريس» / الغرّ منسوع اليدايل
وتلقى «الكري» دون اليلاليس/ يترس قراب وصمايل
ويحطب في رمضا المشاميس / ويوسّط زموله حمايل»
وفي قصيدة أخرى لها بعنوان «رملة الساد»، والساد هي المنطقة التي يعبرها المسافرون في الصيف عند توجههم إلى واحة «العين»، وتقول فيها: 
(دِسْت «البريقا بضحويّه / دربٍ طويل ولا لِهْ اسناد 
«حزم الحبل» ينزو عليّه / م «القايمه» لي «خبّ لفْواد»
ريح الشجر فكّك إذنيّه / وابرانيه من كلّ ليهاد
كيفات ودروب عفيّه / وين الظبي راتع ولا يصاد 
يا ربّ كان ليّه مِنيّه / تجعل مماتي رملة «الساد» 
ونرى في هذه القصائد مدى قوة الرباط العاطفي بين الشاعرة والمواقع التي وثقتها شعرياً، وأضفت عليها حسّ «الأنسنة»، باعتبارها مواقع تنطق بالدفء والألفة، فيحلو فيها الحديث، ويهفو لها القلب، وتشتاق لها الجوارح، فتذكر منطقة «الخريس»، وهو حيّ قديم في منطقة الجيمي بالعين، أما موقع البريقا، فهو عبارة عن مرتفع صخري يقع إلى غرب الطريق الواصل بين أبوظبي والعين، وتذكر الشاعرة أيضاً موقع «حزم الحبل»، وهو مرتفع رمليّ يقع إلى الشرق من «حبال القايمه» في الشرق من منطقة بني ياس حالياً، ويسمى الآن «الوثبة»، أما «خب لفواد» أو «خب الفؤاد»، فهو منخفض أرضي تنبت فيه الأعشاب، ويعتبر منطقة رعوية، يقع على طريق أبوظبي - سويحان، إلى الشرق من «فلاح» و«الشامخة» حاليّاً.

امرأة كريمة 
تنتمي الشاعرة عوشة لقبيلة الرميثيات المعروفة في أبوظبي، ومن عائلة بالحصم التي اشتهرت بامتلاكها لسفن ومراكب الغوص في الماضي، ما يدلّ على ثرائها، ويصف الرواة «عوشة الرميثي» بأنها كانت امرأة عن عشرة رجال، وكان لديها جمل «شملان» تعزّه وتقدّره وتنقل على ظهره مياه الشرب إلى الأهالي، وتنقل أيضاً «الكريات» أو المسافرين إلى العين في مواسم الصيف، وتكدّ وتتعب، وكانت امرأة كريمة وكثيرة الترحيب بالضيوف، وبجانب ذلك كانت شاعرة مميزة، تقول الشعر في وقت لم تكن فيه هناك شاعرات ينافسن الرجال ويبحن بما يمتلكن من رؤى ووجهات نظر، وقد تفوّقت بنت شملان على الكثير من النساء في تسيير أعمال الحياة اليومية، من خلال جرأتها وشجاعتها وقوة تحملها عند حمل المياه وركوب الجمال ونقل الأمتعة ورفعها على ظهور الإبل. ويقول الرواة إن «بنت شملان» عاشت عزباء، فلم تتزوج، وآثرت العمل على جملها والتفرّغ لمهنتها في نقل مياه الشرب العذبة من جزيرة أبوظبي إلى «برج المقطع»، وذلك لاستعماله من قبل حرّاس البرج والعابرين قربه في رحلاتهم من الصحراء إلى البحر، ومن الساحل إلى البرّ.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©