السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

علي المحرّمي.. شاعر «الفَلا»

علي المحرّمي.. شاعر «الفَلا»
4 سبتمبر 2021 01:11

إبراهيم الملا 

«يا زين كيف إتشطّ بي زور/ شطّيت بي وأبعدت بالشوح
وأنا قميص الحال مضرور/ وإنته إمّا بي هوب مسموح 
ودّك سباني حت ماثور/ واسْمي ودادك لاحج الصّوح
قلبي غدى يا زين لخصور/ صبح ومساه وليلِه ينوح»

تفصح القصائد الغزلية للشاعر علي بن سيف المحرّمي عن ملامح أثيرة ومرتبطة بمرجعية بصرية متراكمة لديه، حتى تحسبها المرتكز الأساس لتجربته الشعرية، فهو لا يفارق التوصيفات والظلال والأصداء المتصّلة حسيّاً ومشهدياً بمناطق اشتهرت بآبارها ومزارعها في وسط الصحراء، لذلك تأتي قصائده متدفقة مثل ماء منهمر يروي عطش الحائرين في براري الهوى، وبوادي العشق، فهو المتحدّث باسمهم، والناطق لمروياتهم العصيّة على الكشف والترجمان.
في القصيدة أعلاه وعنوانها: «ودّك سباني» يقتفي «المحرّمي» أثر المحبوب الذي شطّ عنه بعيداً، وتركه فريسة للتساؤلات والهواجس والظنون، ولكن هذا البعد أخذ مدى واسعاً يصعب معه التتبّع والبحث والملاحقة، ولذلك يلجأ شاعرنا للقصيدة ويكتفي بها، لعلها تصل لأسماع المحبوب في يوم ما، ومكان ما، وتشفع له، عندما تغيب كل الحجج، وتنقطع كل الوسائط، «يا زين كيف إتشطّ بي زور/ شطّيت بي وأبعدت بالشوح»، موضحاً في مطلع القصيدة وفي عتبتها الأولى أن ابتعاد المحبوب عنه كان مقصوداً، وأن مسببّات النأي والهجران أُسيء فهمها، ولا تستدعي كل هذا الغضب والسخط، مشيراً في البيت الثاني من القصيدة إلى أن شعوره بالظلم وعدم الإنصاف جعله في حال يرثى لها من الضعف والهزال وضيق الحال وسوء المآل: «وأنا قميص الحال مضرور/ وإنته إمّا بي هوب مسموح»، فعبارة «قميص الحال» في المنطوق الشعبي تعني «الضعف» بمعنييه المادي والمعنوي، وهي عبارة تصف بدقة ما حلّ بالشاعر من أذى وضرر، كونه الضحيّة هنا ومسلوب الإرادة والساكن في قلب الحيرة الذهنية والشتات الجسديّ، ليكمل قصيدته، قائلاً: «ودّك سباني حت ماثور/ واسْمي ودادك لاحج الصّوح»، «قلبي غدى يا زين لخصور/ صبح ومساه وليلِه ينوح»، مسترسلاً في وصف عذاباته، فهو أسير مقيّد وسط الكبت والحرمان، وغير قادر على الدفاع عن نفسه، مكتفياً برجع الصدى في أروقة أبياته وكلماته، وكأنّه الصارخ في البريّة، يطلق نداءاته وأسئلته الحارقة في الفيافي والفلوات، ولا يأتيه ردُّ، ولا تسعفه إجابة، مؤكّداً لمحبوبه الغائب عن العين، والمستتر عن البصر، أن وداده الذي سباه، لم يفسح له مجالاً للنهوض والحركة ومتابعة البحث للعثور على مبتغاه، فهو قابع في مكانه من هول الصدمة، لا يروم شيئاً، ولا يقدر على مقاومة ضربات القدر، وصنوف القهر، ولذلك لم تتبق له بضاعة سوى الدمع والنوح، وكأن عيونه صارت منفذاً لفؤاده، يسكب منها آهاته ويحرّر بواسطتها كل أحزانه ومرثياته.
أما في بقية القصيدة، فنرى الأوصاف العجيبة والمبتكرة، لهذا المبتلى بالعشق، والمحاصر بالوحشة، والعاجز في ذات الوقت عن إيصال معاناته للمحبوب، مثله مثل الطائر الهائم في حلقة مفرغة، والباحث عن بارقة أمل، أو إشارة تدلّه على ديار المحبوب، وعندها ستكون كل الجهات واحدة، وكل الدروب متّصلة، وكل المديات متداخلة، يقول الشاعر علي المحرّمي في هذا السياق:

«قلبي شرات الطّير لي يْدور
 في الجوّ ويراوح بالجنوح
في الّليل ما يازم بلا وكور
 يهدّ لو شاف الفلا سْروح
يعلّ المِزِن لي يرثّ خْطور
 يدعي مغاني داره ضحوح
نركب خيار الهين ونزور
 ونقول كاد يطلّ مربوح»

منطقة «مهذّب»
في دراسة له عن السيرة الحياتية والشعرية للمحرّمي، يذكره الباحث الدكتور راشد المزروعي، أن المنطقة التي ولد بها شاعرنا، وهي منطقة «مهذّب»، كانت ممراً قديماً للقوافل بين عجمان وأم القيوين إلى داخل بادية الإمارات الوسطى، ويوجد بها «طوي» أو بئر ماء مشهورة ومعروفة، كانت تقيما عليه عوائل أبناء البادية من مختلف القبائل في أيام الشتاء والربيع، وذلك في مواسم الأمطار، وهي ضمن الآبار الواقعة في البادية التي زودها الإنجليز أيام الاستعمار «بمراوح الهواء» التي تساعد بحركتها في استخراج المياه من الآبار بشكل أسرع من الطرق التقليدية اليدوية، حتى يرتوي منها البدو وما يملكون من ماشية وإبل.ويشير المزروعي إلى أن منطقة «مهذّب» وما يحيط بها كانت من أولى المستوطنات التي اهتمّ بها مجلس الإمارات المتصالحة ومكتب التطوير، خلال الخمسينيات والستينيات الماضية، وبئر مهذّب هي التي قال فيها الشاعر الكبير «راشد الخضر» قصيدته الذائعة الصيت: «يرّوا إرشاكم من مهذّب/ واسقوا العطشان من ماكم 
في هواكم قلبه إمعذّب/ من ثلاث سنين يقفاكم 
إن رضيتوا الناس لو تغضب/ غضبهم ما يهمّ مع إرضاكم
استحبّ لذكركم وأطرب/ لو عذولٍ ياب طرواكم
إن تغرّبتوا أنا أتغرّب/ وإن بقيتوا باقي أنا وْياكم»
ويوضّح المزروعي أن شاعرنا المحرّمي كان يتنقل في طفولته مع أهله في مناطق مهذّب والرفيعة وفلج المعلّا وسيح الجري برأس الخيمة حالهم حال البدو في تلك الأيام، طلباً للرعي في أيام الشتاء، ثم الرجوع إلى المناطق المعروفة بمياهها ونخيلها مثل الذيد والعين والمناطق العمانية في الداخل مثل ضنك والبريمي، وذلك في موسم الصيف، مضيفاً أن المحرمّي كانت له صولات وجولات في مجال الشعر النبطي، وكانت قصائده مرآة صادقة لحياة البدوي الأصيل، المشتبك بتفاصيل بيئته وخصوصيتها الجغرافية والمناخية والاجتماعية.
وعن سبب اكتسابه لاسم «المحرّمي» يشير المزروعي إلى روايتين في هذا الصدد، الرواية الأولى تقول إن أحد أبناء عمومة شاعرنا، وهو الشاعر الكبير سالم بن غريبة المحرّمي، كان ملازماً لأهل «محرّم» ومتواجداً دائماً معهم في الجنوب، حتى أصبح يطلق عليه: «المحرّمي»، وعليه فقد أصبح ابن عمه «خليفة بن سيف بن راشد» والد شاعرنا الذي كان يسكن المناطق الشمالية، يُعرف أيضاً باسم «المحرّمي»، فاكتسب الاثنان هذا الاسم بحكم قرابتهما، أما الرواية الثانية، فتشير إلى أن هذا الاسم جاء عندما اشترى والد شاعرنا جملاً صعباً من أهل «محرّم»، وكان ذلك الجمل مرتبطاً بصاحبه فقط وعندما استطاع والد شاعرنا ترويضه سميّ بالمحرّمي، نسبة إلى امتلاكه للجمل، أو جمل «أهل محرّم» وعلى أي حال، فإن هذا الاسم أصبح لقباً لأبناء عائلة خليفة بن سيف وأحفاده من بعده إلى يومنا هذا، يلقبّون به كبطن أو عائلة من بطون قبيلة «بني قتب» الكريمة.
وعن أساليب «المحرّمي» الشعرية يقول الدكتور راشد المزروعي: إن أغلب شعره يعتبر من نوع «الرّدح»، كما تميّز بشعر «العزاوي» الذي أجاد فيه، وكذلك التغاريد التي لم يصل منها إلاّ القليل، أما الأغراض الشعرية التي طرقها فكانت كلها في الغزل، ولم يتطرّق إلى باب آخر، سوى شعر «المشاكاة» وقد كانت له أكثر من مشاكاة مع الشاعر محمد بن راشد بن حليس الكتبي، ومع أخيه عبدالله بن راشد بن حليس، وله أيضاً قصيدة مشهور يحاور فيها الخشبة التي يرفع عليها دلو البئر، وتسمى عند أهل البادية: «الفرغ».

اقتفاء الأثر
استقرّ الشاعر علي المحرّمي في فترة من حياته بإمارة رأس الخيمة، قبل أن يرجع إلى مناطق الرفيعة والذيد أواخر السبعينيات وظل مقيماً بها حتى وفاته - رحمه الله - عام 1996.وفي رأس الخيمة عمل المحرّمي بداية في مهنة «الجفّير»، أي مقتفي الأثر، وكانت تلك المهنة مطلوبة في تلك الأيام لاقتفاء أثر الإبل في الصحراء، وكذلك أثر الأشخاص الهاربين من القانون، وكان المحرّمي خبيراً في مجال قصّ الأثر، وكان صاحب حنكة وبصيرة في التعرّف على بصمات الأرجل وسط الرمال، وكان قصّ الأثر في الأربعينيات وما قبلها هو السبيل الوحيد لملاحقة اللصوص واسترجاع الإبل التائهة، وعند قيام «شرطة رأس الخيمة» أمر الشيخ صقر بتعيين المحرّمي فيها، مع إبقائه متفرّغاً لمهنة «الجفّير»، وعندما استحدثت الوسائل المتطور في الكشف عن الجرائم، لم تعد هناك حاجة لمهنة قص الأثر التقليدية، فتقاعد شاعرنا وعاد إلى أرض طفولته ومرابع صباه.

معجم البادية
ولد الشاعر علي بن خليفة بن سيف بن راشد المحرّمي الكتبي، عام 1914م بمنطقة «مهذّب»، الواقعة بين بادية الشارقة وأم القيوين، وكان شاعراً بالسليقة، لم يقرأ ولم يكتب، وظلّ وفيّاً لموهبته في نظم القصيدة الشعبية المعبّرة عن طبيعة الأمكنة التي عاش بها وزارها في المناطق الوسطى بالدولة، وكان لصيقاً بها وجدانياً ومعرفياً، حتى إن زيارته للمدن الساحلية كانت قليلة، ولم يوثّقها شعرياً، إلّا فيما ندر، وكانت مفردات البادية ومعجمها اللفظي هي المتسيّدة على شعره، والطاغية على أسلوبه، والناقلة بصدق لتفاعله الحيّ والحقيقي مع إيقاع الرمال، وهي تشكّل البانوراما المشهدية الجامعة بين الصحارى والواحات والمزارع واستراحات «المقيظ»، وطقوس الترحال المتناوب بين الصيف والشتاء، وملاحقة الأمطار، والبحث عن موارد المياه.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©