إبراهيم الملا
«ليتني في منيحر الغالي/ وإن عطشت اشربت من ريجه
سكّرٍ مديوف في مْلالِ/ يبري العلّات والضيجه
ليتني عقصٍ من زلوفك/ واندري في الحلج مرّيه
ليت روحي في وسط روحك/ وإنت روحك يا الغضيّ فيّه»
نحن أمام شاعرٍ مغرمٍ بالإيجاز والكثافة، وذي ملمحٍ إبداعي فريد، مَبْنِيّ على الارتجال في لحظة التجلّي، ومستند إلى الابتكار في فورة الحال وراهن المقام، إنه الشاعر الفذّ علي بن هويشل الخاطري، والأب الروحي لشعراء الرزيف في مناطق وحواضر الإمارات كافة، استند إلى فطرته النقيّة وسليقته النافذة وموهبته النادرة، كي يطلق عنان مخيلته الخصبة في براري القصيدة وسهوبها ومدياتها العصيّة على التحديد والقَطْع والمعاينة.
انحاز «الخاطري» كليّاً للرزيف، وصار شغله الشاغل، وتخصّص في صياغة ألحانه، وسبك أبياته، وزخرفة قوافيه وتقسيم أوزانه، وكأنه الحرفي الماهر، الملمّ بأسرار صنعته، وخبايا مهنته، وبواعث رغبته، ظلّ شاعرنا وفيّاً لهذا المسار الذي اختطّه لنفسه، ولم يحد عنه طوال تجربته الثريّة، فصار (الرزيف) لصيقاً بتجربته، وبات العلامة الفارقة في هذا الضرب من فنون القول والأداء، خصوصاً في المناسبات الاجتماعية المتّصلة بالجانب الفلكلوري والشعبي بالمكان، مثل الأعراس والاحتفالات الوطنية العامّة.
في القصيدة أعلاه تتّضح قدرة الخاطري على ضخّ شعر الرزيف بالتصاوير الباهرة عندما تتجه دفّة الكلام نحو «هيرات» الغزل، و«مغاصات» الهوى ليستخلص منها اللآلئ النفيسة، والدانات المرصّعة بالجمال والفتنة والاشراقة الفائضة.
يتمنى الخاطري التماهي في المحبوب، وأن يتركّز هذا التماهي في عنقه ونحره، حتى إذا أصابه الظمأ صار شراب المحبوب هو شرابه، وبات الماء العذب سارياً في جوفه وأعضائه.. «ليتني في منيحر الغالي/ وإن عطشت اشربت من ريجه»، وهذا المطلب المستحيل بالنسبة للآخرين، يبدو متاحاً عند شاعرنا، فالعاشق المغمور بسكرة الهوى، لا فوارق عنده بين المشخّص والمجرّد، وبين المعلوم والمجهول، وبين الخبيء والظاهر، إنه خارج لعبة الثنائيات المتضادة، ولا يميل للتباين والتناقض إذا تعلّق الأمر بالوصال واللقيا والاجتماع بالمحبوب، فالمتخيّل عنده هو المتحقّق، والغائب عنده هو الحاضر، والبعيد عنده هو القريب واللصيق والمشتبك.
يُشبّه شاعرنا ريق المحبوب في البيت الثاني للقصيدة، بالسكّر المذاب في الطاسات أو «الملال»، وهو مشروب بجانب حلاوته وطلاوته يشفي المبتلى بعلّة العشق، ويبرئ جروحه، ويداوي مصابه.. «سكّرٍ مديوف في مْلالِ/ يبري العلّات والضيجه».
أمّا في المقطع الثاني من هذه «الرزفة» المُعْتَنى جيداً بمفرداتها وتعابيرها، يأخذنا الشاعر إلى أقاصي الوله، ونهايات الشوق للمحبوب، والاندماج فيه، شكلاً ومعنى، وإشارةً وتلميحاً، وتوضيحاً وتضميناً، عندما يقول: «ليتني عقصٍ من زلوفك/ واندري في الحلج مرّيه»، حيث يبرز الشاعر قيمة التداخل الجسدي مرة أخرى، ولكن في سياق مختلف هنا، فهو يريد الانتماء للتفاصيل الجمالية عند محبوبه، ويتمنى أن يكون خصلة مزدانة وبارزة ضمن خصلات شعره المرتّبة بطريقة تلفت الأنظار، وأن يكون أيضاً بمثابة القلادة الذهبية التي تزيّن جيد المحبوب ورقبته، وبذلك يصبح قريباً من أنفاسه ونبضات قلبه، مستمعاً لما يصدر من همسه وبوحه وقوله وكلماته، أما في المقطع التالي من الزرفة فنصغي لصوت الشاعر المحلّق في فضاءات الهيام، والمنغمس تماماً في لجّة الوجد والصبابة، فيقول: «ليت روحي في وسط روحك/ وإنت روحك يا الغضيّ فيّه» إن هذا التبادل الحرّ بين كيانين يبدوان منفصلين من الخارج، هو تبادل يقع خارج نطاق المُتعارف والمألوف، ولكن براعة «بن هويشل» في الوصف والتشبيه ومجاراة نداء الذات ومطلبها، يجعل المستحيل متحقّقاً، واللّا مُمْكِن مُمْكِناً، والمتجاوز للبداهة مألوفاً، والخارق عاديّاً، فتلاقي الأرواح يتخطّى وبمراحل الأنماط المادية والمحسوسة للّقاء، فوسط هذا البرزخ الروحي ترتقي النفوس وتتعلّى، وتصبح في حالة ذوبان كلّي، لا تقارن في لذّتها بين اللذائذ الطارئة والزائلة المرتبطة بأسبابها الماديّة الصرفة الآيلة دوماً للانقضاء والتلاشي والنسيان.
شكاوى وألغاز
يمتاز شعر الرزيف بأنه ارتجالي ووليد اللحظة، فإذا كانت هناك مشاكاة بين الشاعر والشخص الذي يتحدّاه في الجانب المقابل أثناء تأدية هذا الفن الشعبي، فإن الشاعر المبادر في الإلقاء عليه أن يخلق جوّاً حوارياً جاذباً للحاضرين، ويتحوّل القول وبعده الردّ إلى مجال سمعي مشوّق، تتجلّى فيه موهبة الشعراء، ويفوز بالسباق من هو الأجدر والأكثر تفاعلاً وتجاوباً وتحدياً لنظرائه، وهناك شعراء كثر شاكاهم ابن هويشل في رزفاته واستطاع التفوق عليهم، الأمر الذي أدى لسطوع نجمه وانتشار أشعاره وتداولها في معظم حفلات الرزيف المقامة بمناطق الدولة.
وبرز ابن شويهل أيضاً في مجال الرزفة المتعلقة بالألغاز أو الغطاوي، حيث يستعرض شعراء الرزفة قدرتهم على صياغة الألغاز الصعبة، كي يجيب عنها الطرف المقابل في ذات اللحظة والمكان، ويكون رهان الفوز منوطاً بصعوبة اللغز من جهة، وبذكاء الشاعر المتصدّي لحلّ هذا اللغز، وفكّ رموزه من جهة أخرى.
إيقاعات وأصداء شعبية
ولد الشاعر «علي بن هويشل بن علي الخاطري» عام 1910م بمنطقة «الساعدي» برأس الخيمة، وتوفي، رحمه الله، عام 2000م في مدينة «الذيد» التابعة لإمارة الشارقة، وفي دراسة قيّمة، وقراءة وافية قدمها لنا الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي بتحليل رصين لأساليب وأغراض شعر الرزيف لدى الخاطري، يقول المزروعي: «علي بن هويشل شاعر متخصّص في فن (الرزيف)، الذي يعدّ من الشعر الخفيف والجميل المعاني، الذي يتغنّى به الناس في أفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية»، مضيفاً أن الذاكرة الشعبية ما زالت تحتفظ بالكثير من رزفات بن هويشل الخاطري المشمولة بطابعها الغنائي والمصحوبة بحركات المؤدين لها في هذا الأفراح والمناسبات، وكأنها قصائد نافذة إلى القلب، استناداً إلى لحنها المميّز، ووقعها الجميل في الأذهان والخواطر، مؤكداً أن فن الرزيف سيبقى فنّا أصيلاً ومرتبطاً بالتراث المحلّي العريق بأبعاده الإنسانية والتاريخية، ويستطرد المزروعي قائلاً: «الرزفة هي ذلك الغناء الذي يؤديه الأهالي بلحن خاص من خلال صفّين متقابلين يتناوبان فيهما الغناء، والرزيف يعتبر أحد ألحان الشعر الشعبي، وهو من بحر (الرّدح)، فدائماً تكون قصيدة الرزفة من هذا البحر، المشتهر بأبياته القصيرة ومفرداته المكثّفة، والردح هو البحر الوحيد الذي يصلح لأن تؤدى كلماته في الرزفة، كما أنها تصلح للغناء الشعبي البدوي في الشلّة والونّه».
وتشير السيرة الحياتية لابن هويشل الخاطري أنه كان صاحب صفات نبيلة تشعّ بالمروءة والإحسان وطيب الخلق وحسن المعشر، مستثمراً شعره ورزفاته في توقير الجمال ونشر المعاني العذبة والأبيات المرهفة كي تصل للناس بسهولة ويسر، وأنه قال شعر الرزيف صغيراً عندما كان يعيش مع أبناء قبيلته وأخواله في مناطق «الساعدي» و«الحمرانية» وسهل «الجري»، وكانت من أوائل قصائده تلك التي قالها وهو ما زال في الخامسة عشرة من عمره، ويرد فيها:
«يا ناس ميهود/ من قول لحسود
وصخيّف العود/ مدعنّي شجي
معطيني عهود/ والنايم رقود
ما فضّى سدود/ عليّه يزعلي»
واستغرب منه الناس في ذلك الوقت، فقد كان صغير السن بالنسبة لبقية شعراء الرزيف، وكانت كلماته قوية وذات معنى، فقام الناس والأهل بتشجيعه، ومنذ ذلك التاريخ - كما يذكر السيد خليفة بن علي/ ابن الشاعر/ - أصبح ابن هويشل شاعراً معروفاً ومختصّاً بالرزيف، وبمرور الوقت وعند دخوله مرحلة الشباب تكوّنت لديه فرقة خاصة به ومن محبّي شعره من قبيلة الخواطر، وكذلك من قبيلة الطنيج بالذيد، ومن أفراد بقية القبائل كالمزاريع والغفلة وغيرهم.
أما عن الأغراض الشعرية لرزفات بن هويشل، فيستفيض المزروعي في شرح أنواعها وتقنياتها الأسلوبية، ذاكراً في المقدمة الخاصة بهذا الباب أن الشعراء يتفاعلون مع مجتمعاتهم ومشاكلها، وكانت قصائدهم مرآة الأزمنة الماضية، ودليلاً تاريخياً وجغرافياً واجتماعياً واقتصادياً للحياة في تلك الأيام البعيدة، وذلك لما في هذه القصائد من تعرّض لهذه النواحي، وسرد للوقائع التاريخية والمشاكل ونقد للأوضاع التي كانت سائدة في المجتمعات أو مدحها والإضاءة عليها، ويضيف المزروعي أن شعر الرزيف تنطبق عليه هذه القاعدة، فكثير من شعراء الرزيف يناقشون أمور حياتهم من خلال أبياتهم الشعرية التي يتغنّى بها الرزّيفة، فيمكن أن يكون ذلك مدحاً أو غزلاً أو نقداً، أو لغزاً وهو ما يطلق عليه شعر (الغطو) أو (الدرسعي)، وفي شعر بن هويشل الخاطري الكثير من هذه الأغراض، سواء المرتبطة بالذات أو بالمكان.
ويؤكد المزروعي أن أغلب رزفات بن هويشل غزلية، ذلك أن معظم الفنون التراثية اللحنية قصيدها غزليّ يتغنّى بالمحبوب ويصف خصاله ومزاياه ومحاسنه، كما يقول في هذه الرزفة:
«والجنب شروات الورود/ متزغرفٍ لي في شبابه
يوم اوْجَهه نفسي تذوب/ ولعواق تيني من أسبابه»
وهناك أيضاً الكثير من الرزفات التي قالها ابن هويشل في مجال النقد الاجتماعي، احتجاجاً على الأوضاع السلبية، وتذكيراً للناس بالابتعاد عن التصرفات غير السويّة، والمزعزعة للقيم الأخلاقية الرفيعة التي تربّى عليها الأجداد وورّثوها لمن أتى بعدهم.
وكان نقده قويّاً لوضع كان مقلقاً في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، والمتمثّل في خطف الأطفال والنساء والشباب من قبل الأشرار المأجورين، وبيعهم تالياً في بعض الدول المجاورة، ووثّق ابن هويشل هذا الحدث المأساوي في شعره، كي يتداولها الناس ويضعون حدّاً لها من خلال إيصال صوتهم للأعيان والمسؤولين واتخاذ موقف حاسم يعيد الأمن للأهالي ويجنبهم التبعات المؤلمة لفقدان أحبائهم وذويهم.
وتطرّق ابن هويشل في رزفاته لمواضيع أخرى تتعلق بذكريات الماضي وعنفوان الشباب، والتحسّف على أوقات جميلة مضت، وخلّفت واقعاً جديداً ومغايراً، فرض فيه كبر السن كلمته، وبات فيه المشيب والوهن مسيطران على النفس والجسد، وحول هذا الأمر يقول:
«الوقت يا مصبّح رماني/ وارخص بقدر ما يهون
وإن شفت برّاق الشمالي/ ونّيت وأمسيت مْغبون
شانت الدنيا ومعناها/ ومن الهوى با يوز بوني
وان سرت بتعذّر وأيوزي/ أهل الهوى ما عذّروني»