أبوظبي (الاتحاد)
في مقال عمره أكثر من 80 عاماً، كتب عباس محمود العقاد أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر والعالم العربي مقالاً استعرض خلاله رؤيته في عمالقة الشعر العربي خلال النصف الأول من القرن الماضي، أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، قائلاً: حافظ هو أقرب الثلاثة إلى السلف وأجمعهم لهوى الصناعة القديمة في جزالة الكلمة ورنة البيت والشطرة، وشوقي هو أملكهم لعنان قلمه وأكثرهم تصرفاً في أغراضه، ومطران أقربهم إلى أساليب الغرب، وأقلهم خسارة بترجمة شعره إلى اللغات الأوروبية. كما استعرض العقاد في مقاله المحفوظ في ذاكرة الصحافة، رؤية الشعراء الثلاثة في بعضهم بعضاً، وكيف كان الإبداع بالكلمة القاسم المشترك بينهم.
...............................
فيما يلي نص المقال..
كان ميدان الشعر العربي في مطلع القرن العشرين يتسع لفرسانه الثلاثة: شوقي وحافظ ومطران.
وكان من إلهام البداهة الفنية تلقيبهم بتلك الألقاب التي لزمتهم وكادت أن تدل عليهم دلالة أسمائهم: أمير الشعراء، وشاعر النيل، وشاعر القطرين، أو شاعر بعلبك والأهرام وقد تزاملوا مدى الحياة، ولكنهم لم «يتصادقوا» جميعاً في غير حدود المجاملة، إذ حالت المنافسة بينهم دون اتصال الصداقة القلبية على أتمها وأصفاها، ولكنها كانت منافسة في شيء. غير الشعر وغير الشهرة الأدبية، لأن ميدان الشعر العربي - كما قلنا في مستهل هذه الكلمة - قد اتسع لهم وظل متسعاً لهم ولمن بعدهم مدى الحياة.
لم يكن خليل مطران مرشحاً لمنافسة أحمد شوقي في القصر الخديوي، لأن شاعر القصر بحكم وظيفته يحيي الأمير في الأعياد والمواسم والمناسبات الدينية.
ولم تكن بين خليل وحافظ منافسة على منابر الإنشاد ولا على أندية السمر والفكاهة، لأنه كان يروي شعره ولا ينشده، وكان شغله في النقابات يغنيه عن التمويل في معيشته على كسب القصيدة.
ولهذا خلصت المودة بين خليل وشوقي كما خلصت بينه وبين حافظ، وكانت المجاملة غاية ما انتهت إليه الصلة بين الطرفين الآخرين، تتخللها أحياناً مقطوعة لاذعة من هنا وبيتان قارصان من هناك، ثم ينقضي على هذا خصام الكلام، بلا عتاب ولا ملام.
وكثيرون من أبناء هذا الجيل لم يسمعوا بتلك «الشفويات» المتبادلة بين أمير الشعراء وشاعر النيل، مما ينقل ويروى ولكنه لا يطبع أو ينشر، وأصلحه للنشر من قبيل قول شوقي:
وأودعت إنساناً وكلباً وديعة فضيعها الإنسان والكلب حافظ، أو قول حافظ:
يقولون إن الشوق نار ولوعة.. فما بال شوقي أصبح اليوم بارداً
أما حافظ ومطران، فقد خلقهما الله سميرين مطبوعين يملكان الندى ويؤنسان الجليس ولا يمل لهما حديث، ولكنهما يختلفان في الطريقة أبعد اختلاف، ويستطيع كل منهما أن يخلي المكان لصاحبه ويحتفظ بعد لك بمكانه على أوسع نطاق.
فالمطران فارس الحلبة في «الصالون العائلي» يتجلى بالنادرة الطريفة والمثل الأنيق والقفشة الاجتماعية والشاهد المبين.
وحافظ فارس الحلبة في مجتمع الأدباء، وفي النادي «الرجالي» لا يبالي أن يرسل النكتة الحاضرة والجواب السريع والقافية التي لا تعذر ولا تعتذر، والهجوم العنيف الذي لا يتكلف ولا يعنيه أن يرفع التكليف.. ومطران أول من يستهدف باختياره لهذه الحملات عليه وعلى غيره، من زميله الذي لا يرحم ولا تطلب منه الرحمة في هذا المقام!
سمع مطران أن رئيس الوزراء يومئذ يتوعده بالنفي فقال:
أنا لا أخاف ولا أرجي...... فرسي مهيأة وسرجي
وسمع حافظ قصيدة زميله «المتحمس» فبادره قائلاً يخفف من غضبه ويهون عليه الأمر:
«فرس إيه وسرج إيه يا خليل.. قل وأنت الصادق: كتفي مهيأة وخرجي!...» يشير إلى خرج الصابون!
ويتحدث مطران عن سر التشويه الذي أصاب أنفه، فيقول إنه من أثر الولع بالفروسية في صباه.. جمع به الجواد فسقط من سرجه ووقع على أنفه.
فيدركه حافظ معقباً: «وأخوك جورج ما باله؟.. أكان على ظهر حمار وراءك فجمح به الحمار.!»
وحافظ هو أول من أشاد في قصائده بالشاعر العربي مطران فقال:
نظم الشام والعراق ومصرا.. سلك آياته فكان الإماما
ولكنه إذا «حبكت القافية» قال لزميليه إنه على مذهب النحاة الذين يلزمون المثنى الألف، وأن مطران على هذا هو «شاعر القطران..»
ولكل من الزملاء الثلاثة في صاحبيه «رأي أدبي» يدخل في باب النقد محسوباً له حساب التواضع في المجاملة أو التحفظ في المنافسة. فمطران يقول عن حافظ «إنه نحات تماثيل»، ويقول عن شوقي: «إنه شاعر العبقرية، فرار الذكاء، يستمد وحيه من مشاركات عملية وتنبيهات فنية».
وشوقي يقول عن مطران: «إنه صاحب المنن على الأدب والمؤلف بين أسلوب الإفرنج في نظم الشعر ونهج العرب».
ويقول حافظ في مطران: «إنه منجم من مناجم الماس، إلا أنه نضج واستوى وحوى من الكنوز ما حوى»،
ويعني بمنجم الماس أنه منجم الفحم كذلك، ولكنه إذا نضج واستوى فهو الجوهر المصفى، الذي يشهد له في تحيته لأبناء بلعبك، فيقول:
قد سمعنا خليلكم فسمعنا.. شاعرًا أقعد النهى وأقاما
وطمعنا في شأوه وقعدنا.. وكسرنا من عجزنا الأقلاما
وقد بايع حافظ «شوقياً» بالإمارة في قصيدته التي يقول منها:
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً.. وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
أما شوقي فخير آرائه في حافظ هو الرأي الذي أورده في رثائه بين أبيات يقول منها:
اُنظُره فأَنت كأَمْسِ شأْنُكَ باذخٌ.. في الشرقِ واسْمُكَ أَرفعُ الأَسماءِ
يا مانِحَ السُّودانِ شرْخ شبابِه.. ووَلِيَّهُ في السّلمِ والهيْجاءِ
لمَّا نزلْت على خمائله ثوَى.. نبْعُ البيانِ وراءَ نَبْع الماءِ
قلَّدْتَهُ السيفَ الحُسامَ، وزدْتَهُ.. قلما كصدرِ الصَّعْدةِ السمراءِ
قلم جرى الحِقبَ الطِّوالَ فما جرى.. يوماً بفاحشةٍ ولا بهجاءِ
يكسو بِمدْحَتِه الكِرامَ جلالةً.. ويُشَيِّعُ الموْتى بحسنِ ثَناءِ
وهو رأي قاله في صيغة أخرى حين قال في تقريظ ديوانه الأول على أشهر الروايات:
يا حافظ الآداب والبطل الذي.. يرجى ليوم في البلاد عصيب
لا تسأل الأوراق عما أودعت.. في هذه الصفحات كل عجيب.
وخلاصة الرأيين أن المأثور من شعر حافظ هو كلامه في الرثاء وتقدير العظماء، وهو رأي يوافقه عليه المعجبون بحافظ ويضيفون إليه التنويه بقصائده في القوميات وطائفة من الاجتماعيات، وقد ينظر مطران إلى مكانته من جانبها «النفساني» فيتساءل: ماهو العامل الأكبر في محبة الأمة لحافظ؟»
ويقول مجيباً بما فحواه إنه هو إخلاصه في قومياته لامته لأنه: «كان صادقاً في محبته إياها صدقاً لم يبال معه ثقال التبعات التي تعرض لها سواء أكانت منها أم كانت من أجلها».
أما مكانته في حركة التجديد، فالخليل يتوسط في حكمه عليها فيجعلها دوراً من أدوار حياته العشرية، وفي هذا الدور أنشدنا قصيدته التي عنوان «غادة اليابان» وتصرف في نظمها تصرف الآخذ آخذة الجديد في الشعر وظل على مذهب هذا بقية عمه، غير أن طائفة من الحوادث القاهرة كانت بين آن وآن تفعل فعلها في رده إلى الميناء الذي أقلع منه..».
ذلك رأى الزملاء الثلاثة في أنفسهم، نعتقد أنه هو الرأي الراجح في موازين النقد إذا رفعنا منها صنجة المجاملة وصنجة المنافسة وهما تزيدان وتنقصان من جانب التواضع تارة ومن جانب التحفظ تارة أخرى:
فحافظ هو أقرب الثلاثة إلى السلف وأجمعهم لهوى الصناعة القديمة من جزالة الكلمة ورنة البيت والشمطرة.
وشوقي هو أملكهم لعنان قلمه وأكثرهم تصرفاً في أغراضه.
ومطران هو أقربهم إلى أساليب الغرب وأقلهم خسارة بترجمة شعره إلى اللغات الأوروبية.
إلا أن المعجبين به والمخالفين له قد بالغوا معاً فيما نقدوه من أسلوب لفظه وتركيبه، فمن الواجب أن نذكر أن شعر الخليل على ما فيه من مآخذ البلاغة أسلم لغة في جميع أدواره من جملة إشعار عصره، وأنه لم يكن يتجنب اللفظ السائغ الطلي جهلاً به بل إيثاراً لتحقيق مقصده، فإن الذي يقول - مثلاً - عن طاقة الزهر:
أحاول سلوانا بتشكيل طاقة فأقتل منها ما أشاء وأشكل، لا يعييه أن يقول «تنسيق» طاقة بدلاً من تشكيل طاقة.. ولكن التنسيق لا يفيد تعدد أشكال الزهر في الطاقة الواحدة، ولا يمتنع أن يكون الزهر في الطاقة الكبيرة على شكل واحد، ولا معدى إذن من كلمة التشكيل على ما فيها من العامية والشيوع في مبذول الكلام.
وإذا لوحظ هذا المعنى المقصود في ألفاظ الخليل، فالضعف الذي يشوبها بعد ذلك جد قليل.