السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أصدقاء القاهرة.. صور وذكريات من مصر»

«أصدقاء القاهرة.. صور وذكريات من مصر»
15 يوليو 2021 01:00

إيهاب الملاح

لدينا مدونة رائعة من النصوص التي اتخذت شكل السيرة الذاتية تارة، وشكل الذكريات الشخصية تارة ثانية، وشكل المذكرات والنوستالجيا الحرة المتحررة من التصنيف والشكل تماماً، كان موضوعها ومدار سردها وتصويرها «القاهرة المحروسة» بكل ما تمثله من معنى ومبنى في حياة كل من احتضنتهم حبّاً ومعرفة وثقافة وحضارة ونهضة ومدنيّة.. نصوص كثيرة لا يجمع بينها سوى الموضوع، وهو «مصر القاهرة» بكل ما تمثله من زخم واستدعاءات فياضة بالخبرة والمعايشة والفرح والألم والحنين.
لدينا من هذه النصوص السيرية والروائية التي عالجت ذكريات (القاهرة) في الثلاثينيات والأربعينيات، ثم في حقبة المد الناصري والقومية العربية في الخمسينيات والستينيات حتى انحسارها مع أواخر السبعينيات وما تلاها، لدينا نصوص لا تحصى، سنشير، تالياً، إلى بعضها على وجه المثال لا الحصر.

  • مؤلف الكتاب علي الشريف
    مؤلف الكتاب علي الشريف

1 من هذه المدونة عن القاهرة أعمال لكتاب عرب كبار مثل: «مثل صيف لن يتكرر» لمحمد برادة (المغرب)، و«شقة الحرية» غازي القصيبي (السعودية)، وكذلك كتابات محمد جابر الأنصاري (البحرين)، وعبدالوهاب المقالح (اليمن)، والروائي السوداني الراحل الطيب صالح، وسيف الرحبي (عمان)، وفي وقتنا الراهن من الكتاب والروائيين المعاصرين اللبناني ربيع جابر، والسورية مها حسن، والسوداني الأصل النمساوي الجنسية طارق الطيب في عدة نصوص روائية وقصصية ومتواليات سيرية.. إلخ.
نصوص يكاد يجمع بينها جميعاً عنفوان المشاعر وصدقها وارتباطها الوجداني والنفسي والذهني بأجواء إنسانية وثقافية قلما تتوفر لمريدها في أي مكان في العالم، وهذه ربما هي ما يُطلق عليه البعض خصوصية المكان المشعة التي يبرع الأدباء والكتاب في تصويرها وتجسيدها والتعبير عنها في نصوصهم الإبداعية وغير الإبداعية على السواء.
لكن في المقابل، ما زالت المجموعات البصرية الكاملة من الصور الفوتوغرافية الأصلية التي صورت مشاهد ولوحات وجوانب من الحياة المصرية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين، أقل بكثير من النصوص المكتوبة، وما يظهر منها يمثل إضافة وقيمة حقيقية للتاريخ والأدب وهواة النوستالجيا والموروث الحي.

2 يطمح كل مؤلف جاد إلى أن تتوفر في كتبه المادة الغزيرة والخبرة الحقيقية، والعرض الشائق، فضلاً على الإخراج الفني والبصري الذي يريح العين ويمتعها، ويصل بها إلى درجات رفيعة من التأمل والفهم لم يرق إليها غيره من قبل.
ومن دون أدنى مبالغة، ولا إفراط في الثناء، فإن هذا الكتاب النادر للمؤلف علي الشريف يحقق هذه المتعة التي لا نظير لها، وهذه الاستجابة الرائعة التي تتخلق في الروح والنفس والذهن عقب مطالعة هذا الكتاب النادر القيم.
الكتاب عنوانه «أصدقاء القاهرة.. صور وذكريات من مصر» لعلي الشريف الصادر عن دار (كلمن)، هذا الكتاب الذي يتجلى بصرياً، عبر عشرات الصور والكنوز الفوتوغرافية التي اختزنت لحظتها التاريخية، وحمولتها الثقافية والاجتماعية، وتوازت مع النص المصاحب شارحة وكاشفة وموحية بذاتها!
إنه يمثل بصورة أو بأخرى أحد النصوص التسجيلية الوثائقية بامتياز، التي يمكن لمؤرخ الأرشيف والمأثورات أن يدرجها ضمن مجموعة رائعة من النصوص التي عكفت، كل منها بطريقتها ومنهجها البصري، في العرض والتبويب والتصنيف على اختزان الحمولة المعرفية والإنسانية والتاريخية وتجسيدها في الآن ذاته.
وأعتقد أن المجموعة التي زخر بها الكتاب من الصور الفوتوغرافية من أندر المجموعات البصرية التي تجسد وتمثل ألواناً وأطيافاً من الحياة والناس والذكريات في مصر المحروسة في العقود الأولى من القرن العشرين.

3 كان المرحوم الكاتب الكبير يوسف إدريس يقول إنني لكي أكتب القصة، فكل ما علي وأنا أكتبها أو أسعى لكتابتها، أن أسأل نفسي: «ما قصة هذا الذي يسير أمامي منحنياً أو مستقيماً أو منكسراً أو متأنقاً.. كل منا يحمل قصته، وكل منا يخفي قصة وراءه، وما عليّ إلا أن أتخيل هذه القصة وأكتبها».
وهذا بالضبط هو ما دفع مؤلف الكتاب (علي الشريف) إلى نشره وتوثيقه. لقد كان يسعى إلى البحث عن القصة المستترة وراء كل صورة، ويتساءل عن مصير كل شخص أو مجموعة من الأصدقاء تشاركوا واحدة أو أكثر من هذه الصور البديعة النادرة، ويحكي كيف عثر على هذه المجموعة النادرة من الصور، ويقول:
«ذات یوم -أحضر لي مجموعة من الصور، مغُلفّة بخیط بني داكن في ظرف قدیم، تنتشر علیه بقع من القهوة أو الشاي، قال لي بلهجته المصریة المحببةّ إلى نفسي: بص یا علي ما جبتش حاجة النهاردة غیر دول، لكن دول مش زي الصور التي جبتهالك قبل كدة، ففكرت بكلامه: هل قال ذلك لأنها صور نادرة؟
عندما رأیت الظرف وطریقة لف الخیط علیه، تبین لي بأن هناك شيئاً ما یختفي وراء هذه المجموعة».
وعندما تفحّص كل صوره، وقرأ ما كتُب خلفها، انبهر بالمجموعة، وازداد ذلك الانبهار كلما شاهد صورة جدیدة.
ومن لحظة خروجه من مكتب الرجل، يقول «تولدت عندي فكرة إنشاء معرض لها.. وكنت أتحدث مع نفسي، متخیلاً بأنني أصبحت أمتلك العالم من خلال تلك الصور، ثم روادتني أسئلة كثیرة وهي.. منَ هؤلاء الذین في الصور؟ أین هم الآن؟ هل ما زالوا على قید الحیاة؟ وأین یسكنون.. هل في مصر أو في بلدان أخرى؟.. إلخ».
ومن هنا، ربما، جاء عنوان الكتاب «أصدقاء القاهرة»، وإن كان بمثابة مجاز مرسل على أماكن ورقع جغرافية أخرى داخل حدود الدولة المصرية، آنذاك، من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.4 ربما يكون هذا الكتاب/ الكنز إحدى أذكى المعالجات التي تصور علاقة البشر مع المكان والتاريخ والثقافة من خلال الصورة.. «أصدقاء القاهرة صور وذكريات من مصر» الصادر عن دار (كلمن) الواعدة، بإدارة الصديق المثقف والباحث القدير الدكتور عبد العزيز المسلم، كتاب بهي بمذاق الصورة النادرة وإيحاءاتها، ليوجد وحدة الانطباع والأثر كما في القصة القصيرة، وبذوق السمِّيعة المغرمين الذين يرهفون السمع لعناق الأبيض والأسود، وينصتون لهمس الصورة التي تتفجر حياة وحيوية، وبلون الحنين الذي يتجدد دونما انقطاع.
اختار المؤلف مجموعة ممتازة من الذكريات المتجسدة بصرياً في صورٍ فوتوغرافية نادرة التقطت في فترات باكرة جداً من القرن العشرين في القاهرة الكوسموبوليتانية التي كانت تنافس باريس ولندن وبرلين، وكانت واحدة من عواصم العالم التي تتجلى فيها منجزات الحداثة والتحديث معمارياً وتخطيطياً ومؤسساتياً.. إلخ.
وبفضل اختياراته الممتازة من الصور وتعليقاتها القصيرة الشارحة أراد المؤلف أن يجعلها جزءاً من نسيج حكاياته في فترات زمنية متباينة وإن بدت متقاربة «عشرينيات وثلاثنيات القرن الماضي»، تغطي مساحات من الصعيد إلى الإسكندرية، ومن القاهرة إلى أطراف الصحراء، ومن مدن القناة إلى مدن الساحل.. ويتسع شريط الذكريات المصورة ليختزن لحظات فياضة لا مثيل لجمالها وروعتها وفيضها التلقائي العفوي البديع، ويمتد حبل وصل الحنين والذكريات ليستوعب مشاهد غاية في العذوبة والأناقة لا يملك ابن القرن الحادي والعشرين إلا أن يفغر فاه دهشة وعجباً وانبهاراً بهذه التكوينات البديعة، البشري منها والأثري والدلالي... إلخ.

5 إنها مصر التي لا تغادر الجلد والعظم والنخاع، أبداً، هي العشق والمودة الخالصة والذكرى الأبدية، مدينة المدن متوحشة وجميلة، من يسكنها عظيم ومن يغادرها كمنفيّ لا يقدر أن يغيرها أحد.. يقول المؤلف «مصر التي لم أحظ بزیارتها تغلي في دمائي، وتُشعل الحماس في نفسي»، هي قصيدة عشق من قصائدها لواحدٍ من عشاقها، مخلص العشق، شأن الأرض الطيبة التي ينتمي إليها المؤلف وأهلها الطيبين الذين كانوا ولا زالوا وسيظلون أهل الفضائل العربية الأصيلة، وأهل الإخلاص والمودة الرفيعة، وأصحاب الخصال والمروءة التي تتحدث بها مواقفهم وتاريخهم ودلائل عشقهم للبلد الذي يحبهم أيضاً ويبادلهم المودة الخالصة كلها أضعافاً.
فليستمتع قارئ هذا الكتاب ومُطالعه بهذا الفيض الجارف من الحنين والجذب والمجال البصري النادر والفاخر.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©