حسام نور الدين
في دورته هذا العام، في شهر يوليو الجاري، اختار مهرجان كان المخرج الأميركي سبايك لي، ليكون على رأس لجنة التحكيم، وهذا المخرج كانت له جولات وتاريخ ممتد في المهرجان، منذ عرض أول أفلامه «يجب الحصول عليها 1986»، ثم «افعل الشيء الصحيح 1989»، و«بلاك كلانسزمان 2018»، الذي فاز بالجائزة الكبرى للمهرجان.
اسمه الحقيقي.. شيلتون جاكسون، مواليد 1957، لأم تعمل مدرِّسة للفنون، وأب يعمل بالموسيقى، وقد تربى في بروكلين بنيويورك، وهي مفتاح الولوج لأعماله، حيث يتميز بعشقه الحقيقي لنيويورك، وخاصة حي بروكلين، ويهيم غراماً بكل لحظة يحملها تاريخ وثقافة تلك المدينة، فحبه للمدينة هو السمة الجوهرية لأفلامه، وحتى لو كانت بعض أفلامه خارج نيويورك، إلا أنها تظل موجودة أيضاً، وهذا هو نص ما ذكره المخرج الأشهر/ مارتن سكورسيزي، في معرض تهنئته لسبايك لي، على جائزة دائرة نقاد الفيلم في نيويورك عام 2020، عن فيلم قصير له بعنوان «نيويورك نيويورك» أثناء انتشار جائحة «كورونا».
سبايك لي.. يدين لأمه بحب السينما، فهي التي شجعته في طفولته على الذهاب للسينما، ولها الفضل في أن تحول نفوره من الأفلام الموسيقية إلى الشغف بها، وقد أرسل لروحها كلماته المؤثرة في رسالته، قائلاً: أولاً، وقبل كل شيء، أود أن أشكر السيدة/ جاكلين شيلتون لي، أشكر أمي الراحلة، فلم أكن أحب أن أرى الناس التافهة وهي تغني وترقص، بل كنت أرغب في اللعب في جمهورية بروكلين الشعبية جميع ألعاب الكرة: الباسكت، والهوكي، والبيسبول، والتصدي الدفاعي في كرة القدم، وغيرها، حتى صرت مرافقاً لأمي في السينما، التي لم تكن تلقي بالاً لشكواي المستمرة من تلك الأفلام الموسيقية، فقد كانت أمي من هواة السينما، منذ كانت تصحبني خلفها.
ومما حفر في وعي ووجدان مخرجنا -فيما بعد- حب الأعمال الموسيقية، منذ أن أخرج أول أفلامه «يجب أن تحصل عليه 1986»، الذي مثّل فيه، وتولى مونتاجه، فضلاً عن إخراجه وإنتاجه بميزانية متواضعة، وقد تحول هذا العمل إلى مسلسل شهير بالعنوان نفسه منذ نحو سنتين على قناة «نت فليكس»، واستمر سبايك لي في الخط الغنائي في أفلامه التالية، مثل فيلمه «افعل الشيء الصحيح عام 1989» الذي مزج فيه سواد النظرة لطبيعة الحياة التي يحياها السود مع الروح الكوميدية، والحوار الفيلمي المكثف، مع طريقة السرد الروائي الرائعة، في واقعية قاسية، كما لم يكتفِ أيضاً بأغاني أفلامه، بل مارس أيضاً عشقه للموسيقى والاستعراض على مدار مسيرته المهنية، في إخراجه أغاني الفيديو كليب الشهيرة، مع مايكل جاكسون، وبرنس، وانيتا بيكر، وايمنيم، وفرقة عدو المجتمع.
قضايا مثيرة للجدل
ومن البداية، برز اتجاهه للقضايا التي تحمل جدلاً، وتمس الوضع السياسي والاجتماعي لمجتمع الزنوج الأميركيين، مثل فيلمه «غابة الحمى 1991»، الذي ارتكز على طبيعة العلاقة بين الفتاة البيضاء، والرجل الأسود، حيث لا يندفعان -في رأي صانع الفيلم- بدافع الحب والعاطفة، ولكن بدافع الإغراء الجسدي الذي تبثه توهمات وسائل ووسائط الإعلام، عن السود، والبيض على حدة. وفي عام 1992، تصدى سبايك لي لإخراج سيرة أحد أهم السود في أميركا، الذي تحول من صبي صغير وأحد أفراد العصابات، إلى الداعية المسلم الشهير، والبطل القومي للمسلمين في أميركا/ مالكوم إكس، حيث تعرف على دين الإسلام وهو في السجن، ودعا إليه فور خروجه، ولكن حصل له تطور جذري من بعد انضمامه لجماعة «أليجا محمد»، حيث اكتشف بعد سنوات، أثناء قيامه بفريضة الحج في مكة المكرمة، بُعد تعاليم الإسلام عن مبادئ تلك الجماعة العنصرية والمنحرفة في عقيدتها، فتحول إلى مسلم سني، يتبع منابع العقيدة الصحيحة، دون تفرقة بين البيض والسود. وبالفعل ظل مالكوم إكس أو الحاج/ مالك الشباز -كما سَمىَ نفسه- يدعو إلى الإسلام في ثوابته، ومنابعه الأصلية، حتى تم اغتياله من أحد أفراد جماعة أليجا محمد المناوئة له، وقد رشح الفيلم لجائزتي أوسكار: أولها لبطل الفيلم/ دينزل واشنطن، وجائزة أخرى عن تصميم ملابس الفيلم.
وفي عام 1997 لا يفوتنا أن نتوقف أيضاً عند فيلمه التسجيلي المهم «أربع بنات صغيرات» الذي وثق تفصيلات الحادثة الإرهابية الخسيسة التي تعرض لها السود في يوم 15 سبتمبر عام 1963، عندما تم تفجير «كنيسة برمينجهام» في ألاباما، بتدبير عصابة الكوكلوكس كلان، فقتل على إثرها أربع فتيات من السود «آدي ماي كولينز، كارول دنيز ماك ناير، سينثيا ويزلي، كارول روبرتسون»، في ذروة حملة السود للدفاع عن حقوقهم المدنية، والفيلم عرض القضية بأحداثها وملابساتها التاريخية وقتذاك، معتمداً، على المقابلات المباشرة، والكاميرا الثابتة، والأحجام الكبيرة لوجوه الضيوف من أهالي وجيران وأصحاب الفتيات الضحايا، وكذلك اللقطات الأرشيفية للحدث وقتها، وبعض أماكن التصوير التي لها علاقة بالجريمة.
«بلاكانسزمان»
أما فيلمه «بلاكانسزمان»، فقد حصد جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي سينمائي لتشارلي واتشل، وآخرين، مع سبايك لي نفسه، والفيلم يحكي عن عصابة الكوكلوكس كلان البيضاء المتطرفة، التي يخترق دوائرها في بداية السبعينيات، أول محقق زنجي «قام بالدور/ جون دفيد واشنطن»، في ولاية كلورادو، عبر إطار كوميدي/ بوليسي يحكي قصة حقيقية للمحقق/ رون ستالورث، والفيلم فيه إسقاطات واضحة على تطرف السلطة، خاصة اليمين المتعصب، كاشفاً بذكاء عن عنصرية متجذرة في التراث الأميركي السينمائي ضد السود، كما في فيلم «ولادة أمة 1915» للرائد الأشهر دافيد جريفيث، وقد أجاد سبايك لي تقديم محتوى رؤيته في نضج فني، وسرد محكم، وسخرية ذكية، مما جعله ينال جائزة مهرجان كان الكبرى الذي يعود إليه هذا العام في دروته الحالية 2021 رئيساً للجنة التحكيم، كأول صاحب بشرة سمراء، يتولى هذا المنصب المرموق، في مهرجان كان العريق، على مر تاريخه المديد.