محمود إسماعيل بدر
الزعيم الروحي موهنداس كرمشاند غاندي، الملقب بالـ«مهاتما»، أي صاحب النفس العظيمة أو القدّيس، (1869)، زعيم حركة استقلال الهند، يُعد رائداً لفلسفة واستراتيجية اللاعنف، وهو الذي قال: «إن اللاّعنف هو أقوى قوة في متناول البشرية، كونه أعتى من أعتى سلاح توصل إليه الإنسان». أما سيرة ومسيرة غاندي، الذي ساعد على قيادة الهند للاستقلال (15 أغسطس 1947)، فكانت مصدر إلهام فكري لحركات اللاعنف الداعية إلى الحقوق المدنية والحرية والتغيير الاجتماعي والثقافي، في مختلف أنحاء العالم.
أسس غاندي (اغتيل من قبل متطرف هندوسي في 30 يناير 1948) ما عرف في عالم السياسة بـ«المقاومة السلمية» أو «الساتياراها» وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وثقافية واقتصادية في آنٍ واحد، ملخصها: الشجاعة والحقيقة والشفافية واللاعنف، ويشترط غاندي لنجاح هذه السياسة تمتع الخصم ببقية من شرف وضمير وحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار إنساني موضوعي مع الطرف الآخر، وقد عزز هذه الرؤية في شواهد عدة، منها القرار الذي اتخذه عام 1932 بالبدء في الاضراب عن الطعام، وذلك احتجاجاً على مشروع قانون يكرس التمييز الطبقي في الانتخابات، ويهمش المنبوذين الهنود من أبناء قاع المدينة، مما دفع الزعماء السياسيين والدينيين إلى التفاوض والتوصل إلى «اتفاقية بونا» التي قضت بزيادة عدد النواب من المنبوذين وإلغاء نظام التمييز الانتخابي.
القوة المرنة
وتستند روح السلام والمحبة الكونية عند غاندي إلى نظرية فكرية خاصة قوامها تشجيع العصيان المدني على نطاق جماهيري، وهو العمل الاستثنائي الذي اعتمد عليه ضد القانون البريطاني آنذاك، مثلما حدث في مسيرة الملح التاريخية عام 1930، وتمثل: «أن الوسائل العادلة تفضي إلى غايات عادلة»: أي أنه ليس من المنطقي محاولة استخدام العنف لإيجاد مجتمع مسالم، فقد كان يؤمن بأن الهنود يجب ألاّ يستخدموا العنف أو خطاب الكراهية في نضالهم في سبيل التحرر وتحقيق الكرامة الإنسانية الصافية، وذلك دون إراقة الدماء، مخاطباً العالم بمقولته الشهيرة: «سيتجاهلونك ثم يحاربونك، ثم يحاولون قتلك ثم يفاوضونك ثم يتراجعون، وفي النهاية ستنتصر كالأبطال».وعلى الصعيد الرسمي المتصل باحتفاء العالم بذكرى ميلاد رائد استخدام القوة الناعمة في مواجهة العنف والتطرف، كتب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، تغريدة على «توتير»، أشاد فيها برجل استثنائي كتب اسمه بأحرف من ذهب على صفحات التاريخ، فهذا العلم يذكرنا بالهوة التي تفصل بين ما نقوم به وبين ما نحن قادرون على القيام به، إنه بفكره الباقي فينا حتى اليوم يحث الجميع على اقتفاء أثره من أجل بناء مستقبل أفضل للجميع.
عودة غاندي
وأكد الموقع الرسمي للأمم المتحدة أن تاريخ ميلاد غاندي، زعيم حركة استقلال الهند، مناسبة مهمة لنشر السلام والتسامح والتفاهم. وعلى المستوى الثقافي العربي، أصدرت دار «آفاق» مؤخراً ترجمة لكتاب «أعظم قوة: عن فلسفة اللاعنف» للمهاتما غاندي، ويجمع العمل أبرز النصوص التي تنظّر للمقاومة السلمية وتدافع عنها كخيار أكثر فاعلية من المقاومة التي تعتمد العنف المضاد، ومعظم نصوص هذا الكتاب، هي جزء من مقالات كان ينشرها غاندي إبان الاحتلال البريطاني لبلاده، وقد جرى ترتيبها تاريخياً لمراعاة تتابع سياقاتها، كما أنها تظهر تطور مفهوم اللاعنف من غاندي الشاب، وصولاً إلى الزعيم السياسي الذي قاد بلاده إلى نيل استقلالها بشرف وكرامة، وهو ما جعل من اللاعنف منهجية يتبعها العديد من حركات التحرر والشعوب حول العالم.
كما أعيد قبل أيام إصدار طبعة جديدة من كتاب المهاتما الذي يحمل عنوان «السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة» عن منشورات «إديوكريشن»، والذي يروي فيه سيرته وكيفية تطويره لمفهوم «الساتياجراها» -المقاومة السلمية- فيما تزيح بريطانيا الستار عن تمثال ضخم لزعيم الاستقلال الهندي في ساحة البرلمان المرموقة في لندن، وهي مكان خاص يكتظ بتماثيل رجال دافعوا عن الامبراطورية البريطانية التي ناضل غاندي ضدها، ومن المفارقات أن تمثال غاندي سوف يجثم بالقرب من تمثال زعيم بريطانيا السابق في وقت الحرب وينستون تشرشل، وهو رجل ناضل لإحباط استقلال الهند، وكان يبغض غاندي وكل شيء طالب به. وصمم تمثال غاندي البرونزي المثّـال البريطاني فيليب جاكسون واعتمد على عدد من الصور الخاصة لغاندي، وهو يقف خارج مكتب رئيس الوزراء البريطاني في لندن عام 1931، مستذكرين في السياق مقولته الشهيرة: «يمكنك أن تقيدني، يمكنك حتى أن تقوم بتدمير هذا الجسد، ولكنك لن تنجح أبداً في احتجاز ذهني وهويتي وثقافتي».
الأحلام الكبيرة
واحتفاءً بهذه المناسبة، تلزم العودة إلى الأحلام الكبيرة لغاندي، بنظام اجتماعي مبني على التوازن والعدالة الاجتماعية، والحلم بكل ما هو جميل على هذه الأرض، لضمان ديمومة المجتمعات، وقد حمّل رعاة الجشع مسؤولية تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتراجع أحوال الثقافة والهوية، واللامساواة وسط الطبقات الفقيرة وانعكاس ذلك على المجتمعات البشرية المعاصرة، وما تواجهه من تحديات وعنف وسخط واحتجاجات عارمة بسبب تردي الأحوال المعيشية.
وهذا ما يؤكد اليوم ضرورة العودة إلى مبادئ ونهج هذا الرجل وغيره من المخلصين لثقافة الحرية والسلام والمحبة الكونية، ولعل مقولته الشهيرة تعكس تفانيه عندما قال: «ليس لديّ ما أعلّمه للعالم، فالصدق واللاعنف قديمان قدم الهضاب»، فقد عاش الرجل حياة بسيطة متواضعة، وتخلّى عن الملكية، وكان لباسه متواضعاً، نظارته وعصاه وابتسامته وتودده للجميع، ستظل معايير تلهم الجميع، وأننا ما زلنا بحاجة لقراءة تاريخ زعماء ضحوا بحياتهم لخدمة مجتمعاتهم والإنسانية.
ثقافة غاندي
كتب غاندي في مقابلة مع إحدى الصحف، عن الطالب والقراءة، فقال عن الأدب المكشوف: لقد كان رينولد -أحد الكتاب المشهورين بوصف المناظر المكشوفة- صاحب حظ بين الطلاب أيام تلمذتي، فلم أنجُ من قراءاته إلا لأنني كنت أبعد شيء عن أن أوصف بالطالب الألمعي، ولم أكن أعني قط الخروج من نطاق الكتب المدرسية، ولكنني ذهبت إلى إنجلترا فوجدت مع هذا أن أمثال هذه القصص منفية من كل بيئة محتشمة، وأنني لم أخسر شيئاً إذ لم أطلع على واحدة منها. ونحن نفهم هذه الكلمة فهماً صحيحاً أن «المهاتما» لم يكن بالضرورة متبحراً في المطالعة، ولم يكن قط من أولئك الذين يوصفون بين الغربيين بأنهم ملازمو كتب أو هواة مكتبات، بالخروج من نطاق الكتب المدرسية، ولكنه كان قارئاً انتقائياً يعرف ما يبحث عنه في مطالعاته.
ومع ذلك، الواقع أن غاندي لم يكن قليل الحظ من الاطلاع، ولم يكن مقصوراً في قراءته -أثناء التلمذة في أوروبا- على الدروس التي كان متخصصاً فيها بحكم هذه التلمذة، وهي دروس التشريع والعلوم السياسية، فقد اطلع على أفلاطون وترجم منه «دفاع سقراط» إلى اللهجة الجوجراتية، وهي لهجته الوطنية، واطلع على كارل ماركس، وجون ستيوارات ميل، وأعجب بتولستوي الروسي، وماتسيني الايطالي، وتتبع آثار «رسكن» وترجم له كتابه «حتى هذا المصير»، وكان يقرأ «ماكولي» ويستطيب أسلوبه وتعبيره البارع، وكان يستحسن «ثورو» الأميركي، ويعجب بمعيشته وآرائه وفكره المتقشف في الحياة، ودرس أيضاً اللاتينية فاستطاع أن يتذوق فيها عيون الأدب القديم في بلاغته الأصيلة، وقد قال عنه برناردشو في السياق: «إن غاندي من العظماء الذين لا يجود التاريخ بأمثالهم إلا مرة في كل ألف سنة».
«زايد-غاندي».. متحف يحتفي بقيم التسامح
متحف زايد-غاندي الرقمي، في منارة السعديات بأبوظبي، افتتح عام 2019 (عام التسامح في الإمارات) بالتعاون مع متحف غاندي الرقمي في نيودلهي، احتفاء بالقيم الإنسانية للقائدين، وبمناسبة ذكرى مرور 150 عاماً على ميلاد المهاتما غاندي، وهذا المتحف الرقمي الفريد من نوعه يحتفي بقائدين عالميين شهد العالم أجمع على صدق قيمهما الإنسانية النبيلة، التي أسهمت في بث روح التسامح والتلاحم والوئام بين الشعوب كافة، إلى جانب كونه يشكل محطة نوعية في العلاقات الثقافية بين الإمارات والهند، لأنه يمثل ملتقى حضارياً يسرد ويخلد قيم التسامح والتعايش التي رسخها زايد وغاندي في شعبيهما، ويأخذ الزوار في رحلة عنوانها المحبة والوطن والقيادة الحكيمة، محطاتها السلام والتسامح والإخاء. كما يترجم المتحف رؤية وفكر دولة الإمارات ونهجها القويم في تعزيز ثقافة السلام والتسامح والتعايش والتنوع الثقافي واحترام حوار الحضارات والأديان، تحت مظلة أن الحدث يأتي تعريفاً بإرث القائد المؤسس لدولة الإمارات، وتأكيداً على العلاقات الراسخة بين دولة الإمارات والهند، والتعاون الدائم بينهما.