الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التعب.. مرض القرن الجديد!

التعب.. مرض القرن الجديد!
3 يونيو 2021 02:53

إعداد: مدني قصري 

تعبٌ، إرهاق عبء ذهني وإنهاك مهني... لقد ظهرت هذه المفاهيم في بداية القرن الحادي والعشرين، وهي تأخذ الآن بعداً جديداً مع القيود المرتبطة بوباء «كورونا». لماذا نتحدّث كثيراً عن التعب الآن؟ هل ينتج نمطُ حياتنا الحديث عن الإرهاق؟ أم أن الإرهاق، كما يرى البعض، عرَض للفردانية الحديثة؟ نقترح هنا فحْصَ التعبير عن التعب، باعتباره مطلباً اجتماعياً شرعياً، مطلب مراعاة لاحتياجات حيوية.
في كتابه الشهير «تاريخ التعب»، يرسم جورج فيغاريلو Georges Vigarello التغيرات في الكيفيات التي تمّ بها فهمُ التعب، والتعبيرُ عنه وتمثيلُه ودراستُه منذ العصور الوسطى في الغرب. والتاريخ الذي يرويه هو تاريخ تطوّر الطريقة التي ننظر بها إلى أجسام البشر، ولكن أيضاً تاريخ تطوّر القيم والهياكل الاجتماعية والثقافية التي تؤثر على العلاقة بالجسد، وتطوّر الأهمية التي يوليها المجتمع لبعض الأفراد، أو لأشكال معيّنة من التعب، في مختلف المراحل الزمنية، من إرهاق الفرسان الهائمين، أو الحجاج في العصور الوسطى، إلى إرهاق العمال في القرن التاسع عشر! فلم يكن تاريخ التعب غريباً عن قيم الفترة التي تمثله. إنه تاريخ الذين لهم وزن، وقصّة الهشاشات، ومواطن الضعف السائدة والمعترَف بها في قلب المجتمع.

تعبٌ «حديث»؟ 
لذلك يتعين أن نسأل أنفسنا: ما الذي ينقله اليوم الخطابُ المهم عن الإرهاق في مجتمعاتنا المعاصرة؟ هناك مفارقة حديثة مع ظهور مفردات جديدة للحديث عن التعب: الإرهاق، والإرهاق المهني، والعبء الذهني... فبينما نحن نعيش، بشكل ملموس، في وقت صار لدينا فيه المزيد من أوقات الفراغ والحماية التي يوفرها قانون العمل، أصبح التعب منتشراً في كل مكان في خطاباتنا. قد يجادل البعض بأنّ هذا الأمر يتعلق باختراع أمراض جديدة، أو نتيجة لزيادة الطلب على الحرية، ورفض أي شكل من أشكال القيود الخارجية.

الوقت «غير المجدي»
في كتاب «مجتمع التعب» La société de fatigue، يدافع الفيلسوف الألماني بيونغ شول هان Byung-Chul Han عن طرحه القائل إنّ مجتمعنا الحديث لم يعد مجتمعاً «منضبطاً» (فوكو Foucault)، ولكنه مجتمع الإنجاز والنجاح، يكون الشخص فيه خالياً من أي هيمنة خارجية. ووفقاً لهان، فإنّ أمراض الوقت الحاضر «الإرهاق والاكتئاب» لا تنتج عن قيود أو أشكال من الاستغلال، ولكن من الافراط في الإيجابية أو الحرية، ومن اشتراط الكمال والأداء اللذين يفرضهما كل شخص على نفسه، أي «الاستغلال الطوعي للذات».
فإذا كان الفيلسوف هان محقّاً في الإصرار على وجود فكري (الباراديم Paradigma)، أي تحوّل فردي في مجتمع يقدّر الإنتاجية ويدين الوقت «غير المجدي»، فإنه مع ذلك بعيدٌ كل البعد عن إثبات أن القيود الخارجية قد اختفت. على العكس من ذلك، فإن «قيم» الإنجاز والنجاح هذه تحدّدها أيضاً السياقات والمؤسسات التي تتطلب المزيد من تطوير الكفاءات، وتقييماً ومراقبةً أكثر فأكثر صرامة للأداء وكذلك للشخص.

مشكلة قديمة
إن تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة وتطوير الشبكات الاجتماعية وأدوات التحكم تشكل بالطبع تحديات حديثة جديدة لا يكاد يفلت منها أحد تقريباً. ومع ذلك، فإنّ التعب ليس رهاناً خاصاً بالقرن الحادي والعشرين. لقد أكد الفيلسوف فريدريك نيتشه، بالفعل، في عام 1878، في كتابه «الإنسان الخارق»، على تطور القيم الذي يؤدي إلى رفض الراحة، وإلى السباق نحو الأداء والإنتاجية: «بسبب قلة الراحة، تسارع حضارتنا نحو وحشية جديدة. لم يسبق في أي وقت من الأوقات أن حظِي أشخاص نشيطون -أي أشخاص بلا راحة- بمثل ما حظوا به من تقدير في هذه الفترة». لقد انتقد نيتشه المجتمع الذي لم يعد يفهم أهمية البطء والتأمل والراحة، ويعطي الأفضلية فقط للنشاط والمنفعة.
وقبل نيتشه، كتب كارل ماركس في كتابه «رأس المال» (1867) أن إحدى المظالم الأساسية للنظام الرأسمالي أنه حرم الأفراد من الوقت اللازم للراحة، «سارقاً الوقت الذي ينبغي أن يقضيه الفرد في استنشاق الهواء الطلق، والتمتع بأشعة الشمس، داعياً كل شخص لبذل أقصى جهد، حيث لم يمنحه سوى الحد الأدنى من الراحة التي بدونها لا يمكن للكائن الحي المنهك أن يعمل».

الحقّ في الكسل!
أمّا صهره (زوج ابنته)، بول لافارج، فقد قدّم في عام 1883 «الحقّ في الكسل» (Le droit à la paresse) وهو نقد جذري للمجتمع الذي منح العمل قيمةً عليا، من أجل تبرير استغلال العمال، وجعل قيمة العمل أداة للاستغلال من حيث المظهر الأقل عنفاً من السابق، ولكن بنفس القدر من الإشكالية. وبينما كان، حتى في ذلك الوقت، بالإمكان أن يؤدي تطوير التقنيات الجديدة إلى تمكين الناس من العمل بشكل أقل، والحصول على مزيد من الوقت للراحة والاستجمام، فبدلاً من وضْع التكنولوجيا في خدمة الاحتياجات البشرية، يبدو أن هذه التكنولوجيا قد وضعت البشر في منافسة، مما أجبرهم على إثبات نفعهم، وعلى الكفاح من أجل الحق في العمل أكثر وأكثر!

ما الذي تغيّر؟
والسؤال: ما الذي تغير اليوم؟ هل نحن حقاً أكثر تعباً من ذي قبل؟ صحيح أنّ التعب في العمل يصل حالياً إلى مستويات مقلقة، حيث يواجه واحد من كل خمسة موظفين تقريباً خطر الإرهاق وفقاً لمسح أجري في فرنسا خلال 2019، ناهيك عن آثار الوباء الحالي، لاسيما في بعض القطاعات، مثل مجالات الصحة والتعليم العالى.
قد يستحيل إجراء مقارنة تاريخية، أو محاولة تحديد درجة المشقّة في سياقات أو مواقف مختلفة. لاسيما أنّ التعب مفهوم متعدّد الأشكال، متنوّع الجوانب، إذ يشتمل على أبعاد جسدية ونفسية وعاطفية.
لكنّ ما أصبح معاصراً حقّاً هو أنّ التعب قد غزا خطاباتنا، وطرُقَنا في وصف أنفسنا. صار الناس يتحدثون عنه بسهولة أكبر في الوقت الحاضر، وقد بتنا نبتكر استخداماتٍ جديدة وتعبيرات أخرى لوصف هذه الحالة (الإرهاق، والإنهاك العقلي، وما إلى ذلك). وبينما كانت للإرهاق في السابق دلالة سلبية، فإنّ قبول القابلية للانجراح والعطب أو الهشاشة التي تسببها المواقف التي نمرّ بها يتم التعبير عنها اليوم مثلما التعبير عن احتياجاتنا الأخرى (النوم، الراحة، الحرية، المعنى).

مطلب اجتماعي جديد
تاريخياً، كان أخذ الإرهاق في الاعتبار وسيلة لإبراز حالة الأفراد المحرومين سابقاً من أصواتهم ومن الرؤية في المجتمع. إن التعبير عن الإرهاق، وتسميته، والبحث في أسبابه وآلياته، وتمثيله، تسير جنباً إلى جنب مع الاعتبار المجتمعي لأشكال المعاناة التي ظلت مجهولة أو محتقرة حتى تلك الساعة.
وفي هذا السياق، يتعين أن ننتبِه أكثر من أي وقت مضى إلى المقصود بالتعبير عن التعب. وخاصة التفكيرُ في القيام بتعديلٍ في هذا الخطاب. فخلال القرن العشرين، أصبح تصوّر التعب تدريجياً أكثر فأكثر سيكولوجياً، وداخلياً، في صلة مع التجربة الشخصية أو الفردية. يقول بيتر هاندكه، في مقالة عن التعب (1996)، إنّ التعب «فاصل»، وانطواء على الذات وقطيعة مع روابطنا مع العالم.
أما اليوم، مع ذلك، فقد صار للتعب بُعدٌ جماعي. لم يعد مجرد حالة «أنا»، بل حالة «نحن»، على سبيل المثال ما جاء في ملف مجلة الفلسفة لعام 2019، «لماذا نحن متعبون جداً؟»، أو في الإشارات المتعددة إلى إجهاد العاملين، ومقدّمي الرعاية الصحية في وسائل الإعلام. وهذا الانتقال من الفردي إلى الجماعي يوحي بأنّ الإرهاق مرشَّح ليلعب دوراً جديداً في مجتمعاتنا المعاصرة: فهو، أكثر من كونه وصفاً لحالة أو ظاهرة تؤثر على الشخص في خصوصيته، بل قد يصبح أداةَ مطلب اجتماعي أيضاً!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©