أسماء جزائري
وفِّر من الزّمن الفانيّ مسافتك الخالدة، وبدل التَّمعن في الوقت السّائل داخل التّواريخ المُتغيّرة، جمّد لك مدخراً منه يُحافظ على قوامِه حين تذوب الأعمار، فالعمر يتحوّل إلى استعارة ما دُمنا لا نحسنُ لأجله سوى العدّ، ويتورّط في النّسيان حين يُقْدمُ عليه الموت، العُمر مجال محدود تاريخيّاً لإنسان في إمكانه إقامة أعمار لامحدودة داخله كالتقاط صورة للذّكرى، أو تسجيل الأصوات كتأليف موسيقى أو رسم لوحة وأشياء كثيرة دائمة يصوغها زائل ليتجاوز الكينُونة الزَّائفة بالقلق ما دام تمّ إلقاؤه في الزّمن والمكان بشكل عشوائيّ كما يذهب هيدغر.
وإذن فالقيمة العمريّة ليست فيما يُبقيه ممتداً في زمنه، بل في تلك القطعة الزمنيّة الفردانية الضّئيلة من عمره، والتّي ستنتقل داخل أعمار جديدة، وستعيشُ داخل حيوات مُتلاحقة. ويُعتبر العمر الأدبيّ قطعة زمنيّة خالدة يُقدمها كائن زمني ينطفئ في سماء الحياة كألعاب ناريّة بينما يتركُ في داخل المُتفرجيّن بريقه إلى الأبد، ولكن ماذا عن العُمر البيولوجي الذّي يعني لنا تقدّمُه نوعاً من الحكمة والنّضوج، هل يحدث هذا أيضاً في مفهوم العمر الإبداعيّ؟
توريط المعاني
يُحبّ الإنسان توريط المعاني داخل حلقات الزّمن، وعليه يُؤسس أعماراً للكلمة تستمِدُّ سنواتها من المصدر الذّي قيلت منه، وبدل أن يُمعن في مدلولها يُسارع لتصنيفها في خانة الأعمار آخذاً بها أو تاركاً إياها، فحتّى لو أعجبه رأي ما فسيتركه لهذه الاعتبارات العمريّة: جملة طفوليّة لأنّها صدرت من طفل، جملة مُراهقة صدرت من مراهق، جملة ناضجة صدرت من كهل، جملة خرفة صدرت من طاعن في السن، وهكذا يُقدّم للواقع مبالغاته على أنّها ثابتة لكلّ الأجيال! ويعطي للأفكار صلاحيّة الوثُوق بها نسبة لما يبلغ قائلها من عمر، بينما يتناسى أنّه لا قيمة للكلمة إلّا مناسبتها، هي المُنفصلة تماماً عن زمنيّة قائلها، ولاإرادياً يُصرّح بعض الأشخاص قائلين «عمرك أصغر من أن تملك هذه الأفكار أو تقوم بهذه الأعمال» مثبتين قُصورهم عن طريق الاستغراب تارة وتارة أخرى الاستخفاف!
ورغم أنّنا لم نرَ يوماً معاني تحمل رضّاعة، ولا أخرى طائشة ترمي بالحجارة على زجاج النّوافذ، ولم نشاهد رأياً يتمشّى في الشوارع مُنحني الظّهر مبيض الرأس يحملُه عكّازه، إلا أنّ الإنسان يميلُ للوجود الظاهريّ الموجود فقط في تصوّراته ومجال إدراكه ليُخضع الوجود الحقيقي لنوازعه الشّخصية، فالعبقريّة مهما قولبت كفنٍّ أو علم لا تملك عمراً، هي تصدر عن خلفيّة متمكنة لا زمنيّة، وفكرة النُّضوج هي بالون قد يلاحقكَ وقد تلاحقه، قد تحصل عليه في البداية ليحافظ عليك وقد يضيّعك ليحصل عليك في النهاية، ولهذا تمتعضُ الأصنام في الأدب مما تقدّمه الأعمار الصّغيرة من أعمال، حيث تتمكن من البرهنة عن طريق تلك القواعد المريضة على أنّها فارغة، ولكن هل استطاع التّقدم في العمر البيولوجي أن يكتسب دائِماً فكرة النّضوج؟ بالطّبع لا.
لقد رأينا الكثير من المُراهقة في أعمال مُتقدّمة العمر، فالنضوج المبكر للمبدعين مسألة مطاطيّة يُمكنها أن تتناسب وأسماءهم، وما وحدّهم هو الإمكانية العكسية التّي تُقر بأن كل شيء تكتشفه بتقادم العمر موجود قبلاً، ولكنّك كنت أصغر من أن تراه!
الكفاءة الثقّافية
صحيح أن الأفكار تكبرُ لكن ليس بالصّيغة التّي يكبُر بها الجسد وتتغير ملامحه، إنّ الكفاءة الثقّافية للمبدع تعتمد على مقدرته على توليد أفكار كبيرة، وكلّ فكرة ما هي إلا تبديل معيّن في مواضع الأفكار الأصغر، وكلّما زاد قدر هذه التبديلات التّي أمكن توليدها زاد احتمال أن يُثبت تبديل ما أمام عمليّات الغربلة والفرز التّي ستقوم بها الأجيال القادمة كما وضّح «دين كيث سايمنتن» في عمله «العبقريّة والإبداع». فقد بدأ موزارت يؤلّف وهو في عمر السّادسة، وكتب باسكال مقالاً قيّماً عن المقاطع المخروطية في السادسة عشرة، واكتشف غاليليو التكرار المنتظم لزمن حركة البندول عندما كان في السابعة عشرة، ونشر فرويد أول مقالة له في مجاله وهو في عمر الحادية والعشرين، وبدأ كلّ من داروين وآينشتاين النشر في الثانية والعشرين، وقد توصل أحد البحوث حول شخصيات مبدعة من القرن التاسع عشر أمثال بلزاك وفرادي وغوته وجاوس وماكسويل وباستر وتولستوي، إلى أنّ متوسّط العمر الخاص بالإنتاج الأوّل لديهم كان ما بين الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين (راسكين 1936).
فما معنى ارتباط طول العمر البيولوجي بالعُمر الإبداعي؟
هو ارتباط كمّي بالدرجة الأولى، أما النوعيّة فتُحاجج كل عمل كقطعة زمنية لوحدها، فليس كلّ من كان غزير الإنتاج بالضرورة غزير النوعيّة، ولهذا يظهر الإبداع على شكل دالّة منحنية لأنّ الشهرة قد تُكتسب عبر مبدأ تراكم الفائدة الأدبيّة لأصحاب الأعمار البيولوجيّة الطّويلة، ما يجعل أعمالهم الأولى تتناقص قيمتها وتوسم بأعمال الصّبا، كما قد تُحصل عليها أيضاً (الشهرة) إثر تعاطف الأجيال التّالية مع المبدعين الذّين قضوا نحبهم مبكراً وبطريقة مأساويّة، فالموت المبكر لفتُ انتباهٍ أدبيٌّ يُعلي من أسهم الاهتمام خاصة لأولئك المُبدعين الذّين زينّتهم معاناتهم. وسيُعتبر العمل الذّي قدّموه منجزاً عريض الجماهيريّة، لأن الشهرة لا ترتبط مع العمر البيولوجي بطريقة مستقيمة ولا النّضوج أيضاً، فقد ألّف بيترو ماسكاني أوبرا «كافالييرا روستيكانا» المعروفة جماهيرياً في السادسة والعشرين من عمره، هذا النّجاح القمّة الذّي سبَّب له عائقاً في الحفاظ عليها أو تجاوزها إلى قمة أعلى عبر كل محاولاته الإبداعيّة حتى عمر السبعين، فصرّح قائلاً: إنّه لمماَّ يدعو للأسى أننَّي كتبت «كافالييرا» أولاً، وذلك لأنّني توِّجت قبل أن أصبح ملكاً، ما يجعلنا نفترض أنه لو مات ماسكاني بعد تأليفه تلك الأوبرا مباشرة، ماذا لو كان له عمر ساكورا لا ديناصوراً؟
يوكيو ميشيما وأعمار «الساكورا»
يصرخُ يوكيو ميشيما في إحدى قصصه القصيرة «فتى يكتب الشعر»: «يجب على الشَّاعر الحق أن يموت مبكراً»، فأبطال ميشيما بالضَّرورة شعراء عظام يموتون في ريعان شبابهم كما نفذ ذلك على ذاته، موافقاً نيتشه الذي أكد أن «النوابغ يموتون في شبابهم لأنّهم طيّبون أكثر مما تستطيع الأرض تحمّله»! فالطبيعة التّي قدّمت لنا مثالاً صارخاً في عالم النّباتات بشجرة الكرز، لا تبخل علينا في فهم تلك الدّلالات حين توظف بشرياً بطريقة إبداعية، فعلى عكس النباتات تظهر زهور «الساكورا» قبل أوراقها، وإن كان اليابانيون يحتفلوُن بهذه الشجرة فلأنها تسحر عقولهم بأعمارها القصيرة، ففي أيام قليلة تتراوح ما بين العشرة أيام والعشرين يوماً، تنبت هذه الزّهرة وتصل إلى أوج جمالها ثم تختفي في غمضة عين تاركةً حسنها حيّاً على مدار السنة، هكذا يفعل المبدعون بأعمار «الساكورا»، يظهرون بأقصى جمالهم ثم يموتون في أوج ذلك الجمال، ماياكوفيسكي، سيلفيا بلاث، صفية كتو، رياض الصالح حسين، أبو القاسم الشابي، فان كوخ، كافكا، فروغ، لوترمان، جون كيتس، ألكسندر بوشكين، لوركا، إدغار آلان بو، آرثر رامبو، والكثيرين، ولهذا نتصوّر تبادل أدوار العمر، مثلاً: ماذا لو توفي هنري ميللر في الثلاثين من عمره، هل سيكتبُ مكانه ألبير كامو: ماذا يحدث عندما نبلغ الثمانين؟ ما هي الأعمال التّي ستختفي لتترك المجال لأعمال أخرى خسرناها بسبب رحيل أصحابها المبكر؟