عزالدين عناية
يمكن العودة بأصول الثقافة الألمانية الحديثة إلى لحظة فارقة تتمحورُ حول المصلح مارتن لوثر (1483-1546م)، الذي أنجز أوّل ترجمة للكتاب المقدّس إلى اللغة الألمانية، وخاض حركة تجديد ديني ضمن تطلّعاته الإصلاحية الجذرية ضدّ كنيسة روما وضدّ الهيمنة اللاهوتية الكاثوليكية بوجه عام، ممّا شكّل منعطفاً كبيراً في تاريخ ألمانيا الحديث الثقافي والحضاري. كما يمكن العودة بلحظة التأسيس السياسي لألمانيا الحديثة، ككيان مستقلّ وموحّد، إلى الجنرال أوتو بيسمارك (1815-1898م) على إثر خوضه عملية توحيد حازمة وصارمة، بعد أن كان الفضاء نَهْب كانتونات وكيانات متفرقة. وضمن هذا السياق عُدّت اللحظتان، الثقافية والسياسية، مع لوثر وبيسمارك، في المخيال الألماني من اللحظات التأسيسية والمصيرية لألمانيا الحديثة.
وضمن هذا الإطار التأسيسي العام شكّل الإيمان الدائم بالفعل الثقافي رصيداً معنويّاً ودافعاً حضارياً، في جلّ مراحل تاريخ ألمانيا الحديث، بوصفه السّند الجوهري في عملية صُنْع التطور الحضاري. فليس عرضاً أن يُطلَق على ألمانيا «بلد الشعراء والمفكرين»، لا لمجرّد اختزان الفضاء لحشود من هؤلاء «العاملين» و«الحرفيين» و«التقنيين» العاملين في القطاع الرمزي؛ ولكن أيضاً لِما لهؤلاء من دور في بناء ألمانيا الحديثة وصياغة هويتها ورسم معالم نهضتها المتجدّدة. ولذلك تكلّلت تلك الرحلة ببروز أجيال متلاحقة من اللاهوتيين والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين، كان لهم الدور البارز في إرساء الانتظام الاجتماعي والأثر الواضح في بناء ألمانيا القوية في الداخل والمبهرة في الخارج.
ريادة ثقافية
في عملية واسعة لسبْر الآراء قامت بها شبكة الـ«بي بي سي» على مستوى عالمي، وتكرّرت على مدى ثلاث سنوات 2011 و2013 و2014، كشفت عن أنّ ألمانيا هي البلد الأكثر تأثيراً ثقافيّاً على نطاق عالمي. ولم تأتِ تلك الريادة من فراغ، سواء في الساحة الأوروبية أو العالمية، وإنما قامت على أساس إيمان ثابت بدور الثقافة في صنع القوة الحضارية للشعوب. ولذلك يمثّل الاقتصاد الثقافي في ألمانيا عنصراً حيويّاً واستراتيجيًّا ضمن النشاط العام، بما لا يضاهيه أيّ اقتصاد ثقافي في بلد آخر. فالأوضاع التي يمرّ بها العالم جراء جائحة كورونا أثّرت تأثيراً واضحاً على الأنشطة الثقافية في أرجاء العالم ممّا قلّص العديد من الأنشطة؛ غير أن ألمانيا لم تذعن لهذا الإكراه وواصلت الرهان على الثقافة حتى في ظلّ الأوضاع الحرجة. فليس عبثاً أن تُخصّصَ أثناء الجائحة مليار يورو لدعم الثقافة والعاملين في القطاع الثقافي في السنة الماضية، وأردفتها بمليار يورو آخر في السنة الحالية بغرض النهوض بالصناعة الثقافية ومستلزماتها للحفاظ على نسق الإسهام المعهود.
ولو تمعنّا العناصر والمعطيات الأولية التي تستند إليها القدرات الثقافية الألمانية نلاحظ أنها متواضعة، ولكنها مفعَّلة بشكل جيّد ومدروس ونفعي. وعلى سبيل المثال تمثّل الألمانية اللغة الأمّ لِما يقارب مئة مليون شخص، ولِما يزيد على ثمانين مليوناً آخرين أيضاً ممّن لا تُعَدّ الألمانية لغتهم الأم وإنما تأتي كلغة مكتَسبة حاضرة في تواصلهم ومعارفهم، وهي نسبة متطورة وفي تزايد مطّرد تجعل من الألمانية لغة نامية. وأما على مستوى المجموعة الأوروبية فتشكل الألمانية لغة 18 بالمئة من شعوب الفضاء الأوروبي. ومن زاوية مقابلة نجد 67 بالمئة من الألمان يتكلّمون لغة ثانية و27 بالمئة يتكلّمون لغة ثالثة.
ورغم أنّ الألمانية، بمقاييس عَدَدية، هي لغة محدودة الانتشار مقارنة بلغات أخرى، فإن لها أذرعاً ثقافية فاعلة ومؤثرة في العالم، على مستوى تعلّمي وفني وسينمائي وأدبي، تمرّ عبر «معهد جوته» الشهير بوصفه السفارة الثقافية لألمانيا الحاضرة في أغلب عواصم العام ومدنه الكبرى، فدَوْر المعهد الرئيس هو نشر الثقافة الألمانية والدعاية لها في كافة أرجاء العالم. وتبرز قوة الألمانية في حيازتها في المحافل الدولية مكانة مقدَّرة، حيث تفخر بإحراز 13 كاتباً يكتبون إبداعهم بالألمانية على جائزة نوبل للآداب، يتوزّعون بين النمسا وسويسرا وألمانيا.
رصيد ثقافي وتراثي
ولو أتينا إلى الرصيد المادي نجد ألمانيا تضمّ 46 موقعاً مدرجاً ضمن قائمة التراث العالمي تتعهّده اليونسكو بالرعاية، وهي تفوق الصين (45 موقعاً)، وإسبانيا (44 موقعاً). كما تتبوّأ ألمانيا مكانة متقدّمة من ناحية المخزون الثقافي، فهي البلد الأوروبي الأكثر كثافة من ناحية الثروات الطبيعية والثقافية، ما جعلها دولة السياحة الثقافية الأولى على مستوى أوروبي لتنوع منتوجها السياحي الثقافي. وفي جانب حصري يحوي البلد أكثر من 80 مسرح أوبيرا معروفاً على نطاق عالمي، تمرّ عبرها ثلث العروض الأوبرالية العالمية. ومسرح الأوبيرا بشتوتغارت وحده يرتاده حوالي ربع مليون زائر سنوياً، الأمر الذي جعل الأوبرا الوجه الأبرز للثقافة الألمانية. حيث يعود تأسيس أول مسرح أوبرا في ألمانيا إلى عام 1657 في موناكو بافييرا. وهذا الاحتفاء بالعروض الأوبرالية وبالموسيقى الكلاسيكية في ألمانيا بوّأَ السمفونية التاسعة لبيتهوفن أن تُصنّف ضمن قائمة التراث العالمي لـ«اليونسكو».
وما من شك أنّ تاريخ ألمانيا حافل بالانقسامات والانشقاقات، ولو شئنا لقلنا بالفتن والحروب، ولكن العبقرية الألمانية استطاعت أن تحوّل ذلك الخزّان الهادر إلى خميرة للقوة الحضارية المتجلية في الثقافة، بوصفها العنصر الفاعل الذي أتقن الألمان التعامل معه من خلال تبنّي نظام فيدرالي يراعي التنوعات العرقية واللغوية والدينية ويضمن الحقوق الاجتماعية والسياسية للجميع.
زخم متواصل
وقد كان للمثقفين والفنانين الألمان تأثير واضح في حركة النهضة الأوروبية، وفي حركة الأنوار، وفي الاكتشافات العلمية الكبرى، وفي حركة الاستشراق، ولا يزال هذا الزخم متواصلاً بفضل إيمان ثابت من الحكومات المتعاقبة بدور العامل الثقافي في صنع الريادة الحضارية. فلولا ذلك الاحتفاء والاحتضان الذي يلقاه المبدع الألماني، وقد بات تقليداً تتوارثه سياسات الدولة، لَما رأينا ذلك الحشد الهائل في الثقافة العصرية الألمانية من الكُتاب والموسيقيين والعلماء، مثل جوته وكانط وهيغل ونيتشه وماركس وأنجلز وكافكا وفرويد وباخ وبيتهوفن وموزار وأنشتاين وهايدغر وآخرين، ممن تركوا بصمات واضحة في تشكيل الوعي المعاصر للبشرية جمعاء وليس في بلدهم ألمانيا فحسب.
وبرغم الانتكاسة الكبرى التي أَلمّت بألمانيا جراء الحربين العالميتين وانقسام البلد إلى شطرين، فقد استطاع ضمن خوض عملية مراجعة جريئة وتصحيح للمسار العام، لعب فيهما الساسة والمثقفون دوراً رئيساً، أن يتجاوز كبْوته ويتصدّر المشهد الأوروبي مجدّداً في مجالات شتى، حتى بات المثقف الألماني الحاضر في الساحة الثقافية اليوم هو المثقف الذي يقود أوروبا أكثر مما هو منقاد بها، والمؤثر في تشكيل الوعي الأوروبي أكثر من تأثّره به، وربّما الصانع لآفاقه ومساراته.وينبغي ألّا يفوتنا ونحن نتابع عناصر القوة في هذا الرصيد المعنوي، الذي ميّز الثقافة في ألمانيا وأسهم في تعزيز مكانتها، ذِكر مفهوم ديمقراطية الثقافة، بما يتلخّص في النشاط الثقافي الحثيث والمميز لكل مدينة من مدن ألمانيا. فمدينة بون على سبيل المثال، تشكّل قلعة من قلاع الصناعة السينمائية وهي تنتج لوحدها 300 فيلم سنوياً، ومن ناحية تعليمية تبقى المدينة بمدارسها الخاصة والعمومية البالغ عدد 1200 مدرسة مَخْبراً هائلاً ومتقدماً في أوروبا لأنظمة تربوية وتعليمية وبيداغوجية، مثل المدارس المزدوجة اللغة التعليمية، التي تلقى نجاحاً كبيراً. ولو نظرنا على مستوى الاعتمادات نرى الإنفاق الهائل، حيث تخصّص مدينة بون وحدها 1.8 مليار يورو للبحث العلمي والجامعي سنوياً.
قد لا يأْبه البعض لِما بين الثقافة والريادة من اتّصال، ولكن الحالة الألمانية تنبيه للغافل في هذا السياق.