حسن ولد المختار (أبوظبي)
ولد فهد بن صالح العسكر سنة 1917 في مدينة الكويت، في أسرة علم وتديُّن، حيث كان والده إمام مسجد ومعلم قرآن.. التحق في صباه، سنة 1922، بالمدرسة «المباركية»، ثم المدرسة «الأحمدية»، حيث تلقى مبادئ العلوم اللغوية والشرعية، وواصل بعد ذلك تكوينه الذاتي، من خلال تكثيف المطالعات وتوسيع القراءات في كل ما يقع تحت يده من كتب ومطبوعات عربية وتراثية، حتى توسعت ثقافته وقويت ملَكته الشعرية، فلفت الأنظار في وقت مبكر بقوة أسلوبه الشعري، وسعة خياله، وجمال مفردته، وسلاسة أسلوبه، وجزالة قصائده.
إلى جانب ملَكة فهد العسكر الشعرية المطبوعة، ظهر أيضاً اطلاعه الواسع ومواكبته في وقت مبكر لحركة التجديد في الأساليب الشعرية العربية خلال العقود الأولى من القرن العشرين، ومثَّلت الكتب الأدبية الحديثة والمجلات التي كانت تصل إليه آنذاك «زاده الثقافي والفكري وجسره للتواصل مع المشهد العربي وزخمه ومتغيراته»، ولذلك تجاوز بسرعة أساليب التقليد الشعري العتيقة، وحلَّق مبكراً في فضاء شعري جديد، تطبعه مسحة رومانسية محسوسة، ونزعة إبداع وجرأة فذة على طرح القضايا الإنسانية، وفتح مجال التأمل واسعاً في أسئلة الكون وهموم الإنسان، وقضايا المجتمع والأمة، واستحضار ثيمات شعرية جديدة.
وقد أدى به هذا التحليق المبكر خارج سرب التقليد الشعري، إلى نوع من الانفصال عن الواقع الثقافي والاجتماعي السائد حينها، فجنَح للعزلة، وواجَه مواقف سلبية من معاصريه، وبعض المحيطين به، ممن لم يحسِنوا به الظن، فقاطعوه، فبدأ يشكو حاله مع معاصريه، ممن تحامَلوا عليه، ولم يفهموا أبعاد عالمه الشعري الإبداعي، وجنَحوا لإلقاء التهم جزافاً بحقه، وأطلقوا عليه أقذع الأوصاف، يقول مستطرداً، في توصيف حاله وحالهم:
رَقَصوا عَلى نَوحي وإعوالي وأطرَبَهُم أَنيني
وتحاملوا ظلماً وعدواناً عليّ وأَرهقوني
فعرفتهم ونبذتهم لكنهم لم يعرفوني
وتطاولَ المُتعصّبونَ وما كَفَرْتُ وكَفّروني
وأنا الأبيُّ النَّفْس ذو الوجدان والشرف المصونِ
يا قوم كُفّوا، دينَكُم لكمُ، ولي يا قومُ ديني
انفصال عن الواقع
ومع العزلة المفروضة عليه، وسط جدل متلاطم وانفصال متفاقم عن الواقع في مفرداته اليومية، راح العسكر يستكشف بل يكثّف زحام عوالمه الشخصية، والشعرية الخاصة البديلة، في شكل ثيمات إبداعية لا تخطئ الملاحظة وجودها الطاغي في شعره، لعل أبرزها ثيمة الحبيبة، وثيمة الوطن، وقبل ذلك ثيمة الأنا الشعرية الوجودية الساعية، بكل الطرق، لإثبات ذاتها لنفسها وللآخر، والشاكية بحرارة ومرارة، بثاً لهمومها وتباريحها وجواها، دون جدوى:
لا حبيبٌ أشكو إليه فيرثي..
لشكاتي، ولا صديق صدوقُ
لا، ولا والدٌ يرقُّ ولا أمٌّ..
فتحنُو، ولا شقيق شفوقُ
قد سقاني الغرامُ سمّاً زُعافاً..
لكِ ما ذقته، وما سأذوقُ
تراجيديا الرحيل
يمضي سريعاً ومريراً الجانب الأكبر من حياة العسكر القصيرة، حيث رحل في 15 أغسطس 1951، عن عمر لم يتجاوز 34 سنة، وقد أمضى الفترة الأخيرة منه فاقداً البصر، وحيداً فريداً في غرفة مظلمة، ببناية قرب «سوق واجف» وسط العاصمة الكويتية.
وحتى عند موته لم يودعه أو يشيّعه كثيرون، حيث اقتصر من شهدوا جنازته على خمسة أفراد فقط، ليس من ضمنهم أفراد عائلته، وكأنه كان يستشرف أيضاً تراجيديا طقوس الغياب والعزلة هذه التي لازمته، حياً وميتاً.
وبحكم موقف بعض أفراد أسرته منه، وتأثرهم بتأليب الجُفاة، فقد عملوا على إحراق ما امتدت إليه أيديهم من شعره، ولذلك لم يبق منه إلا بعض ما حفظته صدور بعض الرواة، أو ما احتفظ به بعض أصدقائه، وقد تمكن الأديب عبدالله زكريا الأنصاري، من جمعه في ديوان أصدره عام 1956.