أبوظبي (الاتحاد)
يعد الصلح بين الناس من أفضل العبادات، وأجلِّ القربات، قال الله -تعالى-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)، وفي الحديث الشريف عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِصَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ».
ولذا فإن الصلح بين الناس من العبادات العظيمة، والمصلح قد يبذل من جهده وماله وجاهه ليصلح بين المتخاصمين، وهو مثاب عليه، ومجزي به، ويديم المودة، ويطهر النفوس، ويرأب الصدع، ويلم الشعث، ويطرد الوساوس، ويغلق منافذ الشر، الصلح يقوى المجتمع، ويشد من تماسكه وتآزره.
وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى خلافاً قد حصل بين أهل قباء، لم يرض بذلك، ولم يسكت عليه؛ بل بادر إلى الصلح بينهم فقال لأصحابه: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ».
وقد يختلف الناس، وربما يتطور الخلاف ويتسع، فيتحول إلى تدابر وقطيعة، وهو ما لا ينبغي أن يكون ولا يُرتجى، وكل ذلك شر وفتنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ»، وإذا ما حصلت قطيعة بين الناس؛ وذوي الأرحام فعلى أهل الخير أن يبادروا بالصلح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وليظفروا بالأجر العظيم والثواب الجزيل.
والصلح أنواعه كثيرة، وصوره متعددة: فمنها ما يكون في الأسرة، بسبب الخلاف بين الزوجين؛ وإذا بكلمة طيبة، ونصيحة صادقة من مصلح تعيد المياه إلى مجاريها، وتطفئ الفتنة، فيصلح بينهم. قال -تعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].
ومنها ما يكون بين المتداينين أو الشريكين، فعن كَعْبٍ بن مالك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- طلب دينًا له كان عند أحد الصحابة، وكانا في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيته، فنادى الرسول -صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك، فقال كعب: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك (أي اترك نصف دينك لأخيك). قال كعب: قد فعلت يا رسول الله فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي حدرد: «قم فاقضه».
ومنها ما يكون بين الإخوة والأقرباء أو بين الأصحاب والأصدقاء، فتحصل القطيعة والجفاء، وإذا بمصلح يدفع الفتنة ويصلح بينهم. متمثلا قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10]. فهنيئا لمن كان سببا وسعى في إزالة العداوة وأسبابها، حتى يتحول البُعْدُ قُرْبًا، والعداوة صلحا. حتى يكون ثوابهم عظيماً، وأجرهم جزيلاً، قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ إِلاَّ رجلا كانت بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا».
وجرى بين الحسين بن علي وأخيه محمد بن الحنفية -رضي الله عنهما- جفوة، وافترقا متغاضبين، فلما وصل محمد إلى منزله، كتب إلى الحسين: بعد البسملة من محمد بن علي إلى أخيه الحسين بن علي، أما بعد: فإن لك شرفاً لا أبلغه، وفضلاً لا أدركه، فإن أمي امرأة من بني حنيفة، وأمك فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان ملء الأرض نساء مثل أمي ما وفين بأمك، فإذا قرأت رقعتي هذه؛ فالبس رداءك ونعليك، وسر إلي لترضيني، وإياك أن أسبقك إلى هذا الفضل الذي أنت أولى به مني والسلام، فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء إليه وترضاه.
والصلح له منافع كثيرة وفوائد عظيمة، فمن منافعه؛ أنه تتقارب به النفوس، وتأتلف به القلوب، وتجتمع به الكلمة، ويُنبذ الخلاف، ويصلح به المجتمع، وتحصل به الطمأنينة والاستقرار، ويتحقق به الأمن، وتتفجر بسببه ينابيع الألفة والمودة والمحبة.