أبوظبي (الاتحاد)
حث الله سبحانه وتعالى عباده على مقابلة الإساءة بالإحسان تعزيزاً للمحبة.
فقال: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت: 34]، أَيْ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وإن من أعلى مراتب الأخلاق التي يتحلى بها المسلم دفع السيئة بالحسنة، قال تبارك اسمه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)، وهي مرتبة رفيعة لا ينالها إلا مسلم نال حظاً عظيماً، ومقاماً رفيعاً، قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم)، فدرجة دفع السيئة بالحسنة درجة عظيمة وعالية، والشيطان لا يرضى للصالحين بلوغها، حتى قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فالغضب قد ينزع ويُلقى في الروع قلة الصبر على الإساءة، وحينئذ تكون الاستعاذة بالله تعالى هي الحصانة والوقاية.
وقد أراد الله تعالى لعباده أن يكونوا متعاونين على طاعته، وعمارة أرضه، فدعاهم إلى الصفح والعفو عما يقع من بعضهم من هفوات وزلات، فقال سبحانه: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) [البقرة:109].
وفي هذا إبطال لما يحيكه الشيطان من مكائد لإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، وقد أمر الله تعالى أن نسد عليه طرقه ومساربه، فقال عز وجل: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53]. فحريٌّ بنا أن ننتقي أفضل العبارات، ونختار أحسن الكلمات، لتقوى الألفة بين الناس، فأجر ذلك عند الله عظيم، قال سبحانه: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134]. الَّذِينَ إِذَا ثَارَ بِهِمُ الْغَيْظُ كَتَمُوهُ فَلَمْ يُعْمِلُوهُ، وعَفَوْا عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيظاً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ سُبحَانَهُ عَلَى رُؤُوسِ الخَلاَئِقِ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ»، وكظم الغيظ هو أعلى درجات ضبط النفس، بترك الغضب وسيطرة المرء على تصرفاته· قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»، وهي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- للذي سأله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي. قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ». فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ».
ومن تحلى بضبط النفس حال الغضب كان له عصمة من الشيطان في الدنيا، ونجاة من النار في الآخرة، قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَحَرَّمَهُ عَلَى النَّارِ: مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ. وَهَذِهِ الأَرْبَعُ هِيَ مَبْدَأُ الشَّرِّ كُلِّهِ.
وقد حرص الصالحون على ضبط أنفسهم، وتمالك غضبهم، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ، يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ -تَعَالَى-»، وقد كَانَ بَيْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ شَيْءٌ، فَجَاءَ حَسَنٌ فَمَا تَرَكَ شَيْئًا إِلا قَالَهُ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ، فَذَهَبَ حَسَنٌ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَتَاهُ عَلِيٌّ فَقَرَعَ بَابَهُ، فخرج إليه فقال له: يا ابن عمي، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عَلَيْكَ. فَالْتَزَمَهُ حَسَنٌ وَبَكَى حَتَّى رَثَى لَهُ.
وكظم الغيظ شيء جميل، وأجمل منه العفو وهو ترك المعاتبة والمحاسبة، وأعلى من العفو الصفح وهو سلامة القلب من كل ضغينة لمن أخطأ في حقه، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر:85]، فما أحوجنا إلى أن نسير على طريق أولئك الذين لا يغضبون لأنفسهم، بل يتسامحون مع الناس حتى وإن كان الخطأ والغبن قد وقع عليهم منهم، ليكون لهم الأجر عند الله -تعالى.
ويتبين مما سبق حث الشرع الحنيف لنا على الاحتراز من نزغ الشيطان فيما بيننا، وأمرنا أن ننتقي أحسن الكلمات، والله تعالى يحب للمسلم أن يكون متسامحاً، يقابل الإساءة بالإحسان. لأن عاقبة العفو والصفح عظيمة في الدنيا وفي الآخرة، وإن تعزيز قيم الصفح والعفو والإحسان في المجتمع له أثر كبير في تقوية تلاحمه.