إميل أمين
خلال زيارة البابا فرنسيس الأخيرة إلى العراق، تابع العالم ذلك اللقاء التاريخي الذي اجتمع فيه رموز من رجال الدين الإبراهيميين وغيرهم من أبناء العراق، في ظل مبنى أو ما تبقى منه، لافت للنظر بمساحته الفسيحة، ومرتفعاته المتدرجة التي تشبه المصاطب الفرعونية القديمة، وكان الشبه واضحاً جداً بينه وبين أول هرم في بلاد الفراعنة، والمعروف باسم هرم زوسر المدرج.
كان المبنى قائماً على أرض مدينة أور التاريخية، في محافظة ذي قار الجنوبية على بعد حوالي 375 كيلومتراً، جنوب شرق العاصمة بغداد.
ولكن ماذا تعني زقورة أور بالنسبة للعراقيين وللعاملين في حقل دراسة الحضارات، ولاسيما الباحثين عن الأبعاد الدينية في حياة الأمم والشعوب الشرق أوسطية القديمة؟
عاصمة إمبراطورية
تحتل مدينة أور مكانة مهمة للغاية في نفوس وعقول أبناء إبراهيم الخليل، عليه السلام، إذ ترجع غالبية الدراسات الدينية إلى أنها مكان مولده، ويعود بها الزمن إلى أكثر من 4500 سنة قبل الميلاد، وكانت عاصمة لأكبر وأعظم إمبراطورية شهدها العراق القديم، ويصفها الجغرافيون والمؤرخون بأنها كانت مدينة بيضاوية الشكل، تقع على مصب نهر الفرات، قبل أن يغير اتجاهاته عبر آلاف السنين.
ولكن ما الذي ميز مدينة أور حتى الساعة؟
هنا يأتي الحديث عن هذه الزقورة، وهي كلمة أكادية، تنتمي إلى لغة سامية قديمة ظهرت في بلاد الرافدين منذ 3000 سنة، ومعناها المكان المرتفع، وعادة ما كانت تتخِذ شكلاً هرمياً مدرّجاً، وقد درجت الحضارات المتعاقبة في العراق، كالسومرية والأكادية والأشورية والبابلية، على بناء الزقورات، وإن كان غالبية الباحثين الأثريين يرون أن زقورة أور، هي أقدمها، وقد قام على بنائها الملك «أور نمو»، من سلالة «أور الثالثة»، عام 2100 قبل الميلاد.
أسرار وغموض
وتعد الزقورة من أهم نتاجات المنجز المعماري الحضاري في بلاد الرافدين، وأكثرها إثارة للتساؤل، فعلى مدى عقود من البحث والدراسة قضاها الباحثون والأثريون في محاولة الكشف عن أسرار وغموض ذلك الصرح، وعلى الرغم من عدم التوصل إلى تفسير قاطع يجيب عن الكثير من تلك التساؤلات، إلا أن الجهود التي بُذلت في هذا الخصوص، ساهمت إلى حد كبير في إماطة اللثام عن جزء مهم من أسرار هذا الصرح.
وما وصلنا حتى الساعة يشير إلى أن تلك الزقورة كانت معبداً للإلهة «إنيانا»، إلهة القمر، حسب ما ورد في الميثولوجيا السورية، وكانت تحتوي على 16 مقبرة ملكية شيدت من الطوب واللبـِن، وفي كل مقبرة بئر، وعند موت الملك جرى العرف أن تدفن معه جواريه بملابسهن وحليهن!
ولعل السؤال الواجب طرحه في هذه القراءة: ما أسباب بناء تلك الزقورات؟
قبل الجواب دعونا نشير أولاً إلى طريقة بنائها، وهل يحمل تصميمها معاني ميتافيزيقية، أبعد ما تكون عن كونها مجرد بناء حجري؟
رقم 3 المقدس!
ولعل ما يلفت الانتباه في بناء الزقورات بشكل عام علاقة الأمر بالأرقام، فكما كان الرقم (7) في كثير من الحضارات الشرقية هو رقم الكمال، تظهر الزقورة، في المقابل، أن رقم (3) عند السومريين، في العراق القديم، كان، هو أيضاً، رقماً مقدساً بدوره، ولهذا فإن الزقورة تتألف من ثلاث طبقات، ثلاثة سلالم، كل منها مؤلف من مئة درجة، ولهذا يرى الكثير من علماء الآثار أن رقم (3)، كان عندهم، رقماً ميتافيزيقياً، أي أنه يحمل دلالات مما وراء الطبيعة، ويعطي بعداً آخر لتفكير السومريين آنذاك.
وفي زقورة أور لم يتبق الآن سوى الطبقة الأولى، وأجزاء من الثانية، أما الثالثة فغير موجودة، إلى جانب المعبد العلوي أيضاً الذي انهار بسبب عوامل التعرية.
3 أسباب للبناء
وبالعودة إلى السؤال المتقدم، يذهب مدير متحف الناصرية الحضاري، الأثري العراقي عامر عبدالرازق، إلى أن هناك نظريات عدة تفسر سبب بناء زقورة أور، وإن كانت تبقى أيضاً مجرد تأويلات، ويمكن تلخيصها في ثلاثة أسباب:
أولاً: أن السومريين عاشوا بالجبال في وقت سابق وخلال العصور الجليدية نزحوا إلى السهول ليبنوا الزقورة بهذا الشكل تأثراً بالحياة الجبلية.
ثانياً: الاحتماء بالزقورات من الفيضانات، وهنا يمكن أن تكون للأمر علاقة بطوفان نوح، عليه السلام، الذي تحدثت عنه بصورة أو بأخرى ملحمة جلجامش.
ثالثاً: كونها محطة استراحة الإلهة الرئيسة في مدينة أور، إلهة القمر بحسب الموروث الحضاري القديم. وفي كل الأحوال تعتبر زقورة أور دليلاً على اعتناق الناس آنذاك لديانات واسعة اكتسبت أهمية كبيرة في حياتهم.
الدين السومري
وكان الدين السومري هو أول دين ذي أنظمة ميثولوجية ولاهوتية وطقسية واضحة ومحددة ومتناسقة، وقد شكلت العقائد الدينية السومرية الوجه النظري للدين السومري، إذ تشكل الطقوس والشعائر السومرية الوجه العلمي للعقيدة، وقد تطورت العقائد الدينية السومرية تطوراً بالغاً منذ الألف الرابع قبل الميلاد، حتى وصلت إلى شكلها المتماسك الدقيق، مع نهاية الألف الثالث قبل الميلاد.
وقد تم اكتشاف بقايا زقورة أور لأول مرة من طرف الجيولوجي البريطاني «ويليام لوفتوس»، في عام 1850 ميلادية، وتم الحفر الشامل والكشف عن بقايا المعبد في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، من طرف السير «ليونارد وولي»، الأثري والمكتشف المعروف، وفي عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في ثمانينيات القرن الماضي، تمت إعادة بناء جزئي لواجهة المعبد والدرج الضخم. ومع أن زقورة أور تم بناؤها في العصر البرونزي، أي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، إلا أنها انهارت وتحولت إلى أنقاض بحلول القرن السادس قبل الميلاد في العصر البابلي الحديث، حيث تم ترميمها من قبل الملك «نبونيد»، الذي أعاد بناءها، من سبع طبقات بدل ثلاث، وقد أرجع بعض الأثريين ذلك لعدم وجود ما يدله على الشكل الأصلي.
الزقورة وطوفان نوح
وكانت زقورة أور كغيرها من قبور السلالات القديمة ثرية بكنوز ضخمة لا تحصى، ولكن غداة اكتشافها لم يوجد بها سوى أجزاء من صفائح ذهبية، كانت تقطع بوجود كنوز كبيرة سُرقت، إلى درجة أنه لم يتم تحديد موقع لأي قبر من قبور الملوك اللاحقين في بلاد الرافدين.
والسؤال: هل عاصرت زقورة أور طوفان نوح؟
أثبتت الكشوف الحديثة أن هناك طبقة من رواسب الطمي اكتشفت فيها، ما يعني بالفعل احتمال حدوث طوفان عظيم في تلك البقعة الجغرافية من الأراضي العراقية.
ولعل من المحزن أيضاً أن زقورة أور تعرضت خلال حرب الخليج عام 1991 لأضرار ناجمة عن نيران أسلحة صغيرة، وتعرض المبنى للاهتزاز من الانفجارات.