محمود إسماعيل بدر (أبوظبي)
كتبت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية عن رواية «بنت دجلة» للكاتب والمترجم والمسرحي العراقي محسن الرّملي الذي يكتب باللغتين العربية والإسبانية: «إنها رواية ترصد تحوّلات التّاريخ، مخلّفات الديكتاتورية والغزو والاحتلال الأجنبي، تذكّر بأجواء القرية الصغيرة الغرائبية في «مائة عام من العزلة»، إنها صادمة وساحرة»، أما الرّملي فيقول عن روايته: «هي نوع من علاقات بعض الضحايا مع بعض آخر. نماذج من تحولات أناس عاديين في زمن الفوضى والظلم. حاولت أن أجعل القارئ يضحك أكثر مما يبكي، ليس لأن ما يحدث مثير للضحك، وإنما لأن المأساة حين تصل إلى ذروتها أحياناً، لا نجد أمامها سوى مرارة الضحك، وهذا ما فعله المسرحي والروائي الإسباني ثيربانتس، مثلاً، في عمله الخالد وأم الروايات «دون كيخوته».
الرواية التي تقع في 300 صفحة موزعة على 29 حركة سردية، يتصدّر كلا منها عنوان، تبدأ برحلة «قسمة» وطفلها، في طريقهما إلى بغداد، بحثاً عن جثّة والد الأولى إبراهيم، الذي أعدم في الأول من رمضان عام 2006، ونعتقد أن هذه الجملة التي وردت في الرواية:«بعد أن تقيأت قسمة في منتصف الطريق الذاهب إلى بغداد، وأحسّت بالجوع، قررت أن تأكل العراق»، هي عصارة الرواية وحبكتها الرئيسة، فعندما ترى الخراب الشامل الذي أصاب بغداد، جرّاء الغزو والاحتلال والدّم النازف على الطرقات، فإنها تتقيأ، لا بسبب الجوع الفيزيولوجي، وإنما لجوعها النّفسي الذي صبرت عليه لسنوات خلت، وما عانته من قهر وظلم جرّاء الفساد السياسي، وهيمنة بعض الأقطاب، والولاءات الزائفة التي ضلّت بوصلة طريقها، عبر النعرات والنزعات الطائفية، بوصوليتها وانتهازيتها على كل مفاصل الدولة، وهذا هو ديدنهم كرجال كل وقت، وكل سلطة، وما يتعرّض له هذا البلد بحضارته العريقة من نهب وسلب وتدمير وتشوهات الخريطة - قررت ألا تمتثل إلى الواقع فحسب، بل وتأكل العراق» وتسعى للنّهش من هذا الواقع ما تستطيع، من دون الالتفات إلى الذين أقلّ قدرة على التّمسك بحصتهما، فليس الأمر ذنبها، هي من حقّها أن تسعى لإنقاذ ابنها ونفسها. ونفهم من ذلك في ظل المقاربة بين رفض الراهن المرير وما ينضوي تحته من تحالفات مشكوك في أمرها، والتخلّي عن القيم والمبادئ من أنها في رحلة بحث مضنية أجل الحفاظ على ولدها (رمز المستقبل) في ظل صراعات ممتدة لا تنتهي برسم من أصابع خفية تذهب بمصير الوطن إلى المجهول، ولهذا بنى الكاتب على مستوى تقنية الصورة الفنية خطوطاً متوازية ما بين حالات الشخصيات وحالة العراق، في بانوراما سردية ذات أبعاد ومستويات متعددة من التعابير واللغة الشاعرية المحكمة.
تتمتع فضاءات وصياغات الرواية بقدر عال من الإثارة والتّرقّب والتشويق والحرفية، ولعلها الرقم الصعب في المنجز الروائي للرملي، كونها تتناول مرحلة خطيرة ومعقدة من تاريخ العراق القريب، أي ما بعد 2003، الفترة الأكثر حزناً ومرارة في حياة أهل العراق، وتشعب العوامل التي ساهمت في ضعضعته كدولة، وفي العصف بكل كيان البلد أرضاً وشعباً وثقافة وإرثاً تاريخياً وحضارياً، ولأنها أيضاً بُنيت على عناصر وشخصيات رواية سابقة لها، وهي رواية «حدائق الرئيس»، في نهاية تراجيدية مركبة، ويستمد الرملي من تجربته الكتابية في المسرح والسينما، مهارة بصرية خاصة في رسم شخوص راويته، وخاصة بطلته «قسمة» اللاهثة ككل الأقطاب لاقتناص ما تستطيعه من الكعكة العراقية، في صور فنية ثلاثية الأبعاد؛ الحياة والموت والأحلام التائهة. ويعد المشهد الختامي، الذي صيغ بشكل جنائزي لاختطاف «قسمة» ومن ثم ذبحها، في لعبة تصفية الحسابات، من أجمل مفاصل الرواية، في مشهدية مؤثرة وروح البطلة تحلق فوق النهر الخالد، وما يحيط به من أشجار وبساتين ومساحات خضراء شاسعة ممتدة، وهذا ما يتبقى للعراق في نهاية رحلة تجفيف الدموع.