الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عبدالله الغفلي.. شاعر الترحال

عبدالله الغفلي.. شاعر الترحال
13 مارس 2021 00:03

إبراهيم الملا

«با خلّي ركابي مطاريج              لي في المعادي دوم زلّاف
عند الأهل لا أجلس ولا ليج          وكل حين لي في راس مشراف
وبي من الهوى لي في المغاليج        عن مطلبه لا افرق ولا اخاف
ويا (بن علي) ونّيت من ضيج         ولا يواطن جنبي لحاف
على الصبر لا أقدر ولا اطيج         ولو وِزيت النّفْسْ بِكْلاف»

لا يمكن أن يجني المرء من حصاد شاعر بحجم وقيمة عبدالله بن عمير الغفلي، سوى الثمار اليانعة والممتلئة صوراً وتعابير وأنساقاً غاية في الجمال والبهاء والنضج، إضافة إلى التمكن من احتواء الظرف الذاتي لترويضه واستثماره لاحقاً من أجل الوصول للصيغة الشعرية المناسبة، وتقديمها في قالب بصري مدهش، ينطلق من الخاص إلى العام، ومن الحس الفردي إلى التفاعل الجماعي، مانحاً قصيدته في النهاية ذلك الرونق اللغوي المتفرّد بتجليّاته وعمق معانيه وانحيازه المطلق للتميّز والخصوصية.
وفي قصيدته الغزلية أعلاه بعنوان: «سكنى الخوانيج» يطلق ابن عمير مخيلته الجامحة في براري القصيدة فيؤثثها بما يليق بها من عنفوان مشهدي ومن اندفاع داخليّ، مع ميل واضح لغرس آثاره وتوزيع ظلاله وسط هذه المديات الصحراوية المنفلتة، والتي يصعب ارتيادها شعرياً أو تكثيف حضورها في أبيات قليلة ومعنية بظرفها الزمانيّ والمكانيّ، ورغم هذه العوائق الافتراضية القادرة على كبح جماح القصيدة، فإن شاعرنا ابن عمير استطاع أن يتجاوز عقباتها ويقرّب مسافاتها ويشكّل مساراتها، تبعاً لرغبته المتقّدة، وعاطفته المستعرة، وحنكته في اجتراح القوافي وضبط الأوزان ودوزنة الإيقاعات على هوى الخاطر ومبتغى الشغف.
يبدأ ابن عمير قصيدته بجملة محكمة تعبّر عن التمرّد على المقاييس والشروط المعتادة، عازماً على تمهيد الطريق لركابه رغم وعورة الدرب، وهو في سبيل الوصول إلى مبتغاه يختار مجابهة المخاطر بدلاً من الركون والاستكانة للوضع المحبط، القادر على تثبيط همم الآخرين والنيل من عزائمهم، فالأمر بالنسبة لشاعرنا مختلف هنا، لأنه ممتلئ بروح التحدّي، ولا يهاب الظروف المعاكسة والمانعة للوصول إلى ديار المحبوب، حتى لو كانت هذه الديار بعيدة مثل منطقة «الخوانيج» في بادية دبي، بينما يسكن شاعرنا في بادية أم القيوين، فهذه المسافة الطويلة تتطلب شرطاً أساسياً لقطعها، وهو الوفاء الحقيقي والمستدام، لا الادعاء الزائف واللحظي.
في البيت الثاني من القصيدة يعبّر الشاعر بصدق عن قلق المحبّ الولهان، فهو لا يسلم قياده للعاطفة الخانعة، ويجسّد ذلك حركياً في صعود التلال لمراقبة الطرق المؤدية إلى أرض المحبوب، وبالتالي، فهو لا يطيق البقاء مع أهله وعشيرته، متجنباً الألفة والحميمية والأنس، وبالتالي لن يكون أسيراً للمشاعر الجماعية، ولن تفسد هذه المشاعر توقه الشخصي، فهو مشمول بحس المغامرة والاكتشاف، ويرى غايته ومطلبه وانتماءه في أرض أخرى، تخصّه وحده، وتشبع رغبته فقط دون سواه.
في البيت الثالث يأخذنا ابن عمير إلى منطقة المكاشفة دون لبس أو تورية، موضحاً أن عشقه الخفيّ صار معلوماً، وهواه المغلق صار معروضاً، ولن يخاف البوح بأسراره بعد اليوم، ولن تفترق وسيلته عن غايته، ولن تحيد طرقه عن مبتغاه: «وبي من الهوى لي في المغاليج /‏‏ عن مطلبه لا أفرق ولا أخاف»، مضيفاً في البيتين التاليين أنه بلغ منتهاه من الصبر، فليس بعد الحرمان إلاّ الظفر، وليس بعد التمنّي سوى الفوز، مشيراً إلى أن كل الأوزار النفسية، والأحمال العاطفية، ما هي إلاّ ضريبة يدفعها العاشق، وعليه أن يعاملها كغنيمة لا كخسران، فهي أوزار وأحمال تؤكد قيمة التضحية، والثبات على الوله، وتشفع للمحب الناظر عند محبوبه المُنْتَظِر.
يكمل شاعرنا قصيدته قائلاً:

«معتاق من سكن (الخوانيج) /‏‏ ولي شوقّوني ناسٍ أشراف
ريت الغضي حلو التباريج /‏‏ شروى عويد الموز ينغاف
يلّي وداده نشّف الريج /‏‏ واسقانيه كاسات لتلاف»

يغبط الشاعر كل من سكن منطقة الخوانيج، ففيها ما يسرّ الخاطر ويبهج الفؤاد، والأكثر من ذلك أن شوق الشاعر مسدّد نحو محبوب ينتمي للأشراف، ما يزيده سموّاً ومهابة، وما يجعل المشّاق في سبيل الظفر بهذا المحبوب، هي المشاقّ المستساغة، لأن ثمار اجتيازها تفصح عن القيمة الغالية، والمكانة الرفيعة.
يفصح شاعرنا بعد ذلك عن مزايا محبوبه، فهو غضّ وحلو الملامح، يشبه عود شجرة الموز الجامع في آن واحد بين مظهري الغنج والخجل، مذكّراً متلقي القصيدة، بأن الوصول لمحبوبه كان دونه الكثير من الشقاء والعنت، والتلف والعطب، والحرمان والمرارة، ولكن كل الذكريات القاسية ستؤول إلى وضع معاكس، وستذوب في معية الفرح العارم، والاشتياق الجارف، المحقّق لمراده، والشاخص بأصله وتمام اكتماله.

قصائده منتشرة في بادية الإمارات ومدنها وسواحلها 

يشير الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي إلى أن ابن عمير قرض الشعر في شبابه، وكانت قصائده منتشرة في بادية الإمارات ومدنها وسواحلها منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وهي قصائد معروفة يحفظها الكثيرون، وأشهرها تلك التي يقول فيها:

«يا خليفة ناحت الورقا /‏‏‏ هضّعت لغصون وتْلينا
بِرَحْ دمعي يا الأخو هرقا /‏‏‏ لاكزٍ في مقلة العينا
سارقنّي هجرهم سرقا /‏‏‏ ذاكر المعروف والزينا
شِ السّبب لي قرّب الفرقا /‏‏‏ سامحونا كان زلّينا
إن تهايا لي شرا البرقا /‏‏‏ يوم شدّ وشام ع الهينا
إن مِشَنْ يا شِبَهْ لي يِرقا /‏‏‏ لي غواربهن مدافينا»

ويوضح المزروعي أن عبدالله بن عمير الغفلي هو من كبار شعراء الشعر النبطي البدوي الأصيل، حيث كان لشعره ميزات تجعله يقف في الصفّ الأول من بين شعراء النبط في الإمارات في العصر الحديث، إذ يتميّز شعره بسلاسة اللفظ ومتانة الأسلوب وقوّة المعنى، وترتكز أغراضه الشعرية على عدة ضروب وأنواع أهمها الشعر الغزلي، ثم شعر العازي، وقصائد المجاراة والشكاوى، ولم يلجأ للمديح في قصائده، واعتبرها توسّلات بالآخرين، ولا تترجم المعنى المرتبط بحساسية الشاعر، وبرهافته، وبقوة الموقف الذي يريد التعبير عنه، أو بوقع القصة التي عاشها واختبرها، أما فيما يخص شعر «الغازي»، فقد أجاد شاعرنا في هذا المجال، حيث يذكر لنا المزروعي أن فن «الغازي» هو من فنون الشعر النبطي البدوي، مفرد قصيدته تسمّى: «عزْواه»، وهو ضرب من الشعر تكون قافيته من نوع «المضمومة»، ويؤدى هذا النوع من القصيد النبطي بطريقة مفردة، وبلحن معيّن متعارف عليه عند البدو، وأغلب أوقاته يكون بعد انتهاء «الرزيف» أو «الحربية»، وخصوصاً في الأعراس والمناسبات الاجتماعية الكبيرة، وقد برع شاعرنا في هذا الفن قولاً وتلحيناً وأداءً، ومن أشهر قصائد ابن عمير في مجال شعر «العازي» تلك التي يقول فيها:

«أونّ وأطْوَلْ بالعزيف /‏‏‏ حِفْيَت عيوني من السهر
مرّ الزمان بلا وليف /‏‏‏ صابر على طول الدهر
مرّ الشتا وأتلاه صيف /‏‏‏ وبانت لواهيب البِشِر»

وكلمة «البِشِر» المقصود بها هناك البشارة أو تباشير الرطب في منتصف موسم الصيف.

شعر التغاريد
نرى في السيرة الحياتية والإبداعية للشاعر ابن عمير الواردة في كتاب «موسوعة أعلام الشعر النبطي» أنه كان بارعاً في شعر التغاريد، وانبثقت معظم قصائده من تجارب وقصص ومواقف عاشها وعاينها ونقل أحداثها وانعكاساتها عليه، وكانت لأسفاره الطويلة المرتبطة بمهنته في نقل المسافرين على ظهور المطايا دور كبير ومؤثر في تعزيز نتاجه الشعري بقصائد حيّة وحاضرة إلى الآن في الذاكرة الشعبية، لأنها كانت بنت لحظتها الحارة والمتوهجة، عاطفةً وشعوراً وتفاعلاً، موثّقاً في قصائده العذبة والصادقة هذه الكثير من المواقع الجغرافية المميزة في الأزمنة البعيدة، مثل: بياته وخوانيج وتاهل والدري وشنوف ومهذّب والزرقا وطوي سيف ولعذيب وطوي حارب ولوعيب، وغيرها الكثير.
وقد عاصر ابن عمير معظم شعراء الإمارات خلال القرن الماضي، وكان على معرفة بالكثير منهم، أمثال: سالم الجمري، ومحمد الخيّال، ومحمد بن صنقور، ومعيوف بالهلّي، وسالم بن شجّوي، وخليفة بوعويا، ومعظم شعراء البادية الشمالية، علاوة على شعراء من مختلف مناطق الدولة الذين عاشوا خلال فترة حياته التي اختتمت في العام 1995م بعد وفاته - رحمه الله - إثر معاناته من المرض، تاركاً لمحبي الشعر النبطي بالإمارات كنزاً من القصائد المعبّرة عن طبيعة الحياة في الماضي، وعن القيمة الإنسانية الكبيرة للشعر باعتباره وعاءً لروح المكان ونداءات الزمان.

البادية
ولد الشاعر عبدالله بن عمير بن حضروم الغفلي في بادية أم القيوين عام 1910م، وتحديداً في منطقة «بياته» وعمل مبكراً في العناية بالإبل، أو «مكدّة الرجاب» - كما يذكر لنا الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي في كتابه «موسوعة أعلام الشعر الشعبي في دولة الإمارات» - حيث تنوّعت هذه المهنة من نقل المسافرين أو «الجريّات» من المناطق الساحلية والحضرية، إلى المصايف والمناطق الداخلية، حيث كان ابن عمير ينقل المصطافين إلى مناطق «المقيظ» المشهورة في الدولة، مثل الذيد والفلي ودبا وغيرها، وصولاً إلى منطقة الباطنة بسلطنة عُمان، كما عمل في نقل الحطب وبيعه في مدن الساحل، واشتهر بركوب الإبل وترويضها، وكان يملك أشهر سلالاتها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©