إبراهيم الملا
«يا ويل يا من ضاع فكره
في شفّ معسول الشفاتي
لوّل يسليني بزقره
وأقول عونك يا غناتي
واليوم عنّي وسط قبره
متوسِّد اليمنى وِفاتي
يا الدّود عن لا اتيي خَصْرَه
بو يادلٍ سبعٍ ارضفاتي
يا ما سقاني وقْت عَصْرَه
من ريجه السكّر نباتي
حُطّوا قبري عند قبره
باحسانكم يوم المماتي»
يختلط الكلام بالنشيج، ويمتزج القول بالبكاء، في القصيدة الرثائية الأشهر بتاريخ القصيدة النبطية بالإمارات، تلك القصيدة التي باح بها الراحل الشيخ خليفة بن راشد آل مكتوم بعد وفاة زوجته فاطمة بنت الشيخ مجرن بن سلطان الياسي، فصارت قصيدته: «مخطوطة الدمع» بامتياز، وظلّت حاضرة بعمقها الإنساني في الوعي الجمعيّ، وبقيت طاغية بوقعها الآسر رغم اقترانها بالفقد والاستلاب والوحشة، فتناقلتها الألسن عبر العقود باعتبارها المرثية الأصدق تعبيراً عن الشجن، والأفصح ترجمةً لمعاني الإخلاص والوفاء والانصهار في الحزن، واستجلاء الحنين من منبعه، وبعث الذكرى من أصل نقائها، ومنبت انتمائها، تخليداً لمكانة المحبوب، في حضوره وغيابه، وفي اقترابه ونأيه، بين ثنايا الإمكان والاستحالة، وضمن متواليات الفناء والبقاء.
يبدأ الشاعر قصيدته بذكر «الويل» كأقصى تعبير عن الصدمة، وأشرس امتحان مع الفقدان: «يا ويل يا من ضاع فكره»، فهذا البهتان الجارف لا بد أن يكون مصدره موازياً لفعله، وصوته مشابهاً لصداه في الفكر والذهن، وفي التمييز بين الواقعيّ والمتخيّل، ويبدو أن أثر الصدمة كان ضارياً دون شك، ما جعل المشهد أقرب للهذيان منه للحقيقة، وللتشويش منه للوضوح، ما جعل الشاعر يستعيض بالوصل الافتراضي بدلاً عن الهجر القاسي والنهائي، فيقوم مباشرة بوصف مزايا المحبوب واستعادة صورته المتألّقة، وطلّته البهيّة: «في شفّ معسول الشفاتي»، فكأنه المشهد النَضِر والطازج والحيّ، لا المشهد الآنف والخافت والزائل، ولكن استدامة الغياب وطول القطيعة جعلتا الشاعر يستدرك الأمر ويعاينه ويستوحي من الفراغ الماثل أمامه صورة جديدة ومعنى مغايراً لتدرج الزمن وتغيّر الحال، وذلك بعد انبلاج الظن وحلول اليقين، فيكمل قصيدته قائلاً: «لوّل يسلّيني بزقره، وأقول عونك يا غناتي».
و«الزقر» في الدارجة المحلية تشي بالطلب أو النداء، بينما تدلّ كلمة: «لوّل» في مطلع البيت الشعري على انتباه الشاعر لتراتبية الوقت، وانفصال الماضي عن الراهن، ما يعني انسلاله ولو قليلاً من هول المفاجأة ومن أثر الصدمة، وهذا الانتباه المتدرّج سيجعل ارتباط الشاعر بمحبوبه رهنا للتذكّر والتصوّر، وأنه لم يعد رباطاً قائماً على المثول والتواجد والتفاعل اللحظي، يأتي «النداء» هنا بصيغة الماضي، ومن لزوميات «الردّ» أن يكون قريباً ومشتبكاً بزمن السؤال والمطلب، فنقل الحالة الوجودية برمتها إلى استدعاءات الذاكرة في هذا البيت، هو دليل واضح على جلاء رؤية الشاعر لحقيقة الموت وتوابعه المؤلمة والتراجيدية.
يقول الشاعر الشيخ خليفة آل مكتوم في البيت الثالث من قصيدته الأشهر بين قصائد الرثاء في المشهد الشعري المحليّ: «واليوم عنّي وسط قبره/ متوسِّد اليمنى وفاتي»، وهو بيت يؤكد ما أشرنا إليه سابقاً من تحوّلات حسيّة وتغيّرات وصفية في جسد القصيدة ومبناها وتركيبها، بدءاً من الاستغراب الشديد الطاغي على الواقع، مروراً بالانتباه المتدرّج، وصولاً إلى المعاينة الملموسة لمعنى الموت ومآلاته، خصوصاً إذا خطف هذا الموت أقرب الناس إليك، وأكثرهم أنساً وحميميةً وصحبةً، حيث يأتي التعبير في هذا البيت مباشراً وقاطعاً لأي لبس ولأي مطلب من الهوى قد يخالف الحدث المهيب أو يتجاوزه، فالحبيب ثاوٍ في قبره، ولا مجال آخر هنا للشبهة والغفلة والتغاضي، لقد وقع الأمر، وأصبح الانفصال رغم مرارته حاصلاً ومؤكداً، وها هو الفقيد العزيز قد توسّد يمناه على سرير التراب، وسط المنامات السرمدية، والنهايات الأبدية.
ولكن هذا القطع النهائي، والبتر الشرس لعلاقة الودّ ورباط العشق لن يمنع الشاعر من الرجاء ومخاطبة «دود الأرض» حتى لا يصيب جسد محبوبه، فيشوّه جماله، ويسلب إشراقه، ويغيّر فيه ما ألفته العين، وما ابتهج به الخاطر، فيقول: «يا الدود عن لا إتّيي خصره/ بو يادل سبعِ ارضفاتي»، فصاحب الجدائل المرضوفة بسبع طبقات ما يشي بطول الشعر واكتمال الجمال، لا يمكن أن ينتهي به المآل إلى هذا المكان المقفر، وداخل هذا الحيّز المعتم، ولا يمكن أن تمسّه الخطوب، فتقلّل من منسوب حسنه، وتعيب دلاله، وتطمس منظره، وفيما يشبه التناوب المنهك بين اليقظة والشرود، وبين التشخيص والتجريد يظل الشاعر هنا محتفظاً بالقيمة العاطفية باعتبارها امتثالاً وتجسيداً فيما يحسبه الآخرون زوالاً وتلاشياً، تمارس القصيدة هنا دورها التعويضي في رفض الواقع أو التخفيف من وقعه بدلاً من انتظار السلوى والعزاء وتأكيد حالة الفراق، يرى الشاعر ذاته الحيّة في جثمان محبوبه الميّت، فتختلط عنده المقاييس، ويصبح الجزم صنو الشكّ، والهلاك رديف النجاة، والفراق متبوعاً بالعناق، ففي البيتين الأخيرين من القصيدة يتشكّل أمامنا مشهد غاية في العذوبة المقترنة باللوعة، بحيث يكون الضدّ متآلفاً، والغريب مألوفاً، والمستهجن مستساغاً، وهذا النفور المطواع والمروّض يلخصه الشاعر في البيتين التاليين: «يا ما سقاني وقت عصره/ من ريجه السكّر نباتي، حطّوا قبري عند قبره/ باحسانكم يوم المماتي)، فإيراد التفاصيل الدقيقة لحيثيات المحبة، وطقوس الوصل، المنبعثة من حياة سابقة وذكريات وارفة وابتهاجات متدّفقة، يلحقها الشاعر بوصية مُلْزِمة وحاسمة، وهي أن يوضع قبره بعد وفاته ملاصقاً لقبر زوجته، وهي وصية رغم إفراطها في الأسى والألم إلاّ إنها تبرز أمامنا كنموذج صارخ لعاطفة مشبوبة لا يعتريها النضوب ولا يلحق بها الوهن، عاطفة تمتاز بحيويتها وشفافيتها وألقها، رغم كل الموانع المحيطة بها والكاتمة لأنفاسها، لتظل قصيدة الرثاء التي كتبها الشيخ خليفة بن سعيد آل مكتوم واحدة من أكثر القصائد المخترقة لحدود الزمان والمكان في ميراث القصيدة الشعبية بالإمارات، فهي تتضمن ملامسات نفسية وفلسفية يندر وجودها في قصائد الرثاء الأخرى، بجانب أنها قصيدة حفرت عميقاً في ذاكرة ووجدان أجيال عديدة متعاقبة تفاعلت معها وتناوبت في نقل أجواءها التخيلية والبصرية المشحونة بالتأملات المرهفة، والتي يفرضها الحزن ويسمو بها في ذات الوقت نحو فضاءات روحية وإنسانية تشتبك فيها علائق المحبة الخالصة، وتذوب فيها معاني العشق الراقية، وتصبح معها قيمة الوفاء هي القيمة المشعّة والخالدة رغم فناء الأجساد، وزوال الأسباب، واختلاف الأحوال، وانفلات الزمن.
صور تاريخية
يذكر حسين البادي الباحث في التراث الشعبي والتاريخ المحلي لدولة الإمارات والذي زوّدنا بصور تاريخية نادرة توُثّق لمواقف عاشها شاعرنا، أن الشيخ خليفة بن سعيد آل مكتوم -رحمه الله- ولد بمنزل والده في دبي حوالي عام 1920م، وهو الأخ الأصغر لحاكم دبي الأسبق الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وأمه هي الشيخة حصة بنت المر بن حريز الفلاسي، مضيفاً أن الشيخ خليفة نشأ في بيت والده الشيخ سعيد بن مكتوم الملقب بالإمام العادل والعابد، وذلك لتدينه وورعه وعدله، وتربّى في حجر والدته الشيخة حصة بنت المر الملقبة بأمّ دبي، وذلك لإشرافها وقيامها على خدمة أهالي دبي والسؤال عنهم وتوفير كل احتياجاتهم ومتطلباتهم.
وأشار البادي إلى أن الشيخ خليفة بن سعيد ترعرع كأقرانه من أبناء أسرة آل مكتوم الكرام على حب الفروسية والصيد والقنص، وكان فارساً لا مثيل له، حيث كان يمتطي صهوة حصانة بلا سرج ولا لجام، وكان من أشهر من يستعرضون على ظهور الخيل في زمانه.
جرح الفؤاد
من القصائد الأخرى المعروفة للشيخ خليفة بن سعيد آل مكتوم، تلك التي يخاطب بها ناقته المتألمة من رحيل وليدها، مقارناً نفسه بها بعد هجران محبوبه له، وأنهما لا يملكان سوى الصبر لمداواة علّة القلب وجرح الفؤاد، قائلاً:
«يا نوق يا لعّايه
لي بك فرقا الجنين
غثّيتي لي حِشايه
من كثر ما تلعين
جربي الصبر شروايه
في حكمه مستكين
ناسٍ معهم غلايه
مِبْطي دهر وسنين
من ذا الهجر لحمايه
بي فقد لمحبّين
كم بَكْتِمْ من وِزايه
واتْضَرّك بالوِنين»
وفي قصيدة أخرى يرجو فيها أن تهدأ الرياح العاصفة، حتى يهطل المطر، وتخضّر البراري بعد فترة يباس وجفاف طويلة، فبذلك سوف يفرح المحبوب ويختفي عنه الكدر، يقول الشيخ خليفة سعيد آل مكتوم:
«يِعْلِ المِهَبّ يهوني
وإيّي عقبه مطرْ
ويطيح وين سكوني
ويخضرّ عشب البرّ
ويتباشر المَضْنوني
ويفرح بعد الكِدَرْ
ما أشوف دونه دوني
لو يلحق بي خِطَرْ».
شاعر بالوراثة
ورث الشيخ خليفة بن سعيد الشعر من أسرته الكريمة، حيث تشتهر أسرة آل مكتوم بقرض الشهر رجالاً ونساءً، فقد كان والده شاعراً ولكنه كان مقلّاً ولم تتداول قصائده وأبياته إلا ضمن نطاق ضيق بين أفراد الأسرة والمقربين منه، وكذلك كان أخوه الشيخ راشد بن سعيد، كما أن أخته الشيخة: «شيخة بنت سعيد» من شواعر عصرها ولها الكثير من القصائد الباقية حتى الآن في ذاكرة أهالي المنطقة.
وذكر البادي أن الشيخ خليفة بن سعيد تزوّج من فاطمة بنت الشيخ مجرن بن سلطان المري الياسي، وأحبها حباً شديداً، وعاش معها أجمل سنوات عمره، ولكن الله شاء أن يفرق بينهما بالموت، حيث توفيت زوجته بعد ولادة ابنه البكر الشيخ محمد بن خليفة آل مكتوم، وعبّر الشيخ خليفة بن سعيد عن حزنه الشديد وألمه ولوعته على فراق محبوبته بالقصيدة الشهيرة التي يقول في مطلعها:
«يا ويل يا من ضاع فكره * في شفّ معسول الشفاتي».