محمود إسماعيل بدر (عمّان)
اليوم الدولي للغة الأم، يمثل الاحتفال السّنوي في جميع أنحاء العالم لتعزيز التّنوّع اللّغوي والثّقافي وتعدد اللغات، ويوافق يوم 21 فبراير من كل عام، وأُعلن عنه للمرة الأولى من قبل منظمة اليونسكو في 17 نوفمبر 1999، ومن ثم تمّ إقراره من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد تمّ إنشاء سنة دولية للغات في عام 2008، لتعزيز السّلام وتعدد اللغات في جميع أرجاء الكرة الأرضية، وحماية جميع اللغات الأم، ودفع الأمم والشعوب والحكومات للاهتمام بلغاتها الأصلية، لما تحظى به من ثقل استراتيجي هام في حياة البشر والكوكب بوصفها من المقومات الجوهرية وركيزة أساسية في الاتصال والاندماج الاجتماعي والتعليم والتنمية، ومع ذلك فهي تتعرض جرّاء «عولمة الثقافة» إلى تهديد متزايد أو إلى الاندثار كلياً، وهناك ما لا يقلّ عن 43% من اللغات المحكية حالياً في العالم والبالغ عددها 6000 لغة معرضة للاندثار، أما اللغات التي تعطى لها بالفعل أهمية في نظام التعليم فلا يزيد عددها عن بضع مئات.
يحتفل العالم بهذه المناسبة بهدف تعزيز الوعي بالتنوع اللغوي والثقافي وتعدد اللغات، وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً سنجد أن الإمارات كانت من أوليات الدول التي كانت لها مساهمة واضحة في مجال المحافظة على اللغة العربية، وتوّج ذلك بمبادرة بتخصيص جائزة باسم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، للمجتمعات التي تحافظ على تراثها اللغوي من الاندثار أو التهميش، حيث تتعرض العديد من اللغات الضعيفة اليوم إلى التآكل والإهمال مثل الاسكتلندية القديمة، ولغة هايدا في كندا، وسؤامي في السويد، وكاندوسوم في ماليزيا، وشار دار في الهند، وغيرها من اللغات التي تتضمن معاني ومفاهيم ثرية.
«عام القراءة»
من تحت هذه المظلة تنبهت القيادة الحكيمة في دولة الإمارات إلى أنّ مشروعها الثقافي النّوعي لا يمكن له تحقيق جدواه إلاّ بالانتباه إلى ما يحيط بلغة الأمة من محاولات التهميش، والعمل بجد واجتهاد ضمن منظومة متكاملة تسعى لحماية هذه اللغة وصون تاريخها وهويتها وتعزيز قيمتها الفكرية والإنسانية والحضارية، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو حتى على المستوى العالمي بالإسهام من خلال هذه اللغة في مجالات التنوع الثقافي الذي يعيشه العالم في ظل ثورة الإنترنت، متبنّية سلسلة من المبادرات الثقافية التي تدفع قوياً بهذا الاتجاه، ومن ذلك على سبيل المثال مبادرة «عام القراءة» التي أطلقها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة «حفظه الله»، عام 2016، لتمثل خطوة نوعية في مسيرة الدولة، نحو ترسيخ ثقافة العلم والمعرفة والاطلاع على ثقافات العالم في نفوس المواطنين والمقيمين على أرض الإمارات، وبخاصة الجيل الجديد، عبر حدث فريد من نوعه، يشهده عالمنا العربي للمرة الأولى في تاريخنا الحديث، بعد أن تمّ ولتحقيق هذه الغاية إطلاق صندوق وطني للقراءة بقيمة 100 مليون درهم، وواضح جداً أن هذا الحدث تجاوز فكرة الاحتفاء باللغة الأم، ليكون عصباً لمشروع قومي، يستثمر جدّيا في المعرفة والإنسان، ويجعل من القراءة «حالة مستدامة» في إطار مبادرات وخطة قوامها «القراءة»، دون أن نغفل في السياق الإشارة إلى الاستراتيجية الوطنية للقراءة 2016 – 2026، التي اعتمدها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي «رعاه الله»، وتضمنت 30 توجهاً وطنياً في قطاعات التعليم والصحة والثقافة، وهي في الواقع «استراتيجية بناء وطن قوي متوازن، وطموحات ترسم مستقبلاً جميلاً للدولة وللعالم العربي، نحو تعزيز مفهوم مثالي للقراءة بالعربية، والنهوض باقتصاد المعرفة، والتي أثبتت التجربة نجاحها وتفوقها بشكل لافت، ما دعا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، «بوصفه» قانون القراءة «بأنه» قانون حضاري «على مستوى المنطقة لترسيخ القراءة في الأجيال الجديدة، كما أكد بأنه عمل طويل المدى، ونتائجه عميقة الأثر».
تعزيز هوية «العربية»
وقد حققت الإمارات قفزات وخطوات واسعة في أجندة مشروعها الوطني لحماية لغتها، متمثلاً ذلك في إنشاء العديد من المؤسسات والهيئات والجمعيات، لتكون أذرعاً قوية لها في تحقيق المكاسب الثقافية نحو تكريس هوية اللغة العربية وشخصيتها، ومن ذلك تأسيس مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، بهدف النهوض باللغة العربية، وترسيخ وتعزيز حضورها وإيجاد حلول للتحديات التي تواجهها، انطلاقاً من اهتمام أبوظبي بلغة الضاد ودورها في أبوظبي ورئيس مكتب أبوظبي التنفيذي، لخطة المركز الاستراتيجية، فيما يعتبر «مهرجان الشارقة القرائي للطفل» أحد أهم فعاليات مشروع الشارقة الثقافي، وأحد أبرز إسهامات الشارقة العاصمة العالمية للكتاب لعام 2019، في تعزيز مدخلات الاستراتيجية الوطنية للقراءة، وتعزيز مكانة اللغة العربية في نفوس الناشئة، كما نشير في السياق إلى جهود وزارة الثقافة والشباب التي كانت سباقة في إطلاق أكثر من 160 مبادرة، وبرنامج ثقافي، تشجع على القراءة والاطلاع والاهتمام باللغة وتكريسها على المستويات كافة، وتستهدف الوصول إلى كل المواقع وجميع فئات المجتمع، ومنذ تأسيسه عام 2007، تميّز مشروع «كلمة» بدعمه وعمله على نقل ثقافات العالم للقارئ العربي من خلال ترجمة العديد من المؤلفات العالمية من مختلف اللغات إلى العربية، تحت مظلة استراتيجية بعيدة النظر، مؤداها أن الثقافات تتّصل وتتنوع وتتكامل، وأن العربية لغة قوية وحاضرة ومؤثرة في تواصلها مع لغات وثقافات العالم، فيما يمثل مشروع «ميثاق اللغة العربية» الذي أُعلن عنه في أبريل عام 2012، من قبل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نقلة نوعية ونقطة انطلاق رئيسة للجهود الإماراتية في صون وحماية اللغة العربية، وتعزيز مكانتها ودورها في حياة المجتمع، وجاء ليكون مرجعاً لجميع السياسات والقوانين المتعلقة بحماية اللغة العربية، وتعزيز استخدامها في الحياة العامة، هذا إلى جانب الكثير من المبادرات النوعية.
«بالعربي» و«لغتي»
كما تمثل جمعية حماية اللغة العربية التي تأسست في الشارقة عام 1998، حلقة اتصال بين جميع المؤسسات والهيئات بهدف حماية اللغة العربية، ويلعب مجمع اللغة العربية بالشارقة دوراً مهماً في الحفاظ على سلامة اللغة العربية وجعلها مواكبة لمتطلبات العلوم والآداب والفنون الإسلامية والتواصل مع لغات العالم، وفي السياق، لا ننسى المبادرة النوعية لقسم اللغة العربية وآدابها، في جامعة الإمارات، ومركز الإمارات لأبحاث السعادة، بتأسيس المنتدى السنوي لقسم اللغة العربية في نسخته الأولى، بعنوان «اللغة العربية وآفاق التشارك المجتمعي» لغايات تسليط الضوء على الدور العظيم للغة العربية في المجالات المختلفة، والحفاظ على كينونتها وسط التحديات الممنهجة التي تستهدفها، كما تسعى مبادرة «بالعربي» إلى تعزيز مكانة اللغة العربية بين لغات العالم، وحث الجمهور على استخدامها في مختلف قنوات التواصل اليومية، وبدأت المبادرة كفكرة طرحها مجموعة من طلبة جامعات الإمارات، ونفذت بمشاركة عدد كبير من الشباب الجامعي المتطوع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، التي تبنت الفكرة لتطلقها سنوياً بالتزامن مع اليوم العالمي للغة العربية.
في السياق تأتي مبادرة «لغتي» برعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لتعليم اللغة العربية في مدارس الشارقة، استكمالاً لمبادرة دعم التعليم باللغة العربية بوسائل ذكية يستفيد منها طلبة الإمارة، وتأتي الهوية الجديدة للمبادرة في إطار رؤية صاحب السموّ حاكم الشارقة، لأهمية الدور الاستراتيجي للغة العربية في ترسيخ منظومة تعليم متطور تؤهل الطالب لمواكبة العصر والتفاعل مع تحدياته العلمية والتقنية، وتكرس اعتزازه بهويته العربية التي تمثل العمود الفقري الذي تستند إليه دولة الإمارات في إعداد مخرجات تعليمية نوعية.
ترسيخ هويتنا
لم تتوقف فصول قصة نجاح الإمارات في حماية لغتها وصونها والعمل على جعلها في أعلى المراتب عند عمل المؤسسات ذات الصلة، بل تجاوزت ذلك إلى فصل نوعي يتمثل في تخصيص جوائز تدفع بهذا الاتجاه، وتكون رافعة لتحقيق التنوع الثقافي، على نحو «جائزة محمد بن راشد للغة العربية» العالمية، التي تهدف إلى تشجيع الإسهامات الاستثنائية في خدمة اللغة العربية وتكريم روادها وإبراز التجارب الناجحة والمتميزة في نشرها وتعليمها، كذلك دعم أهمية اللغة في مواكبة التطورات التقنية والفنية والعلمية والتجارب مع الآفاق المستقبلية وإمكانية استخدامها في التعاملات والتطبيقات الذكية وتمكين العاملين في ميدان اللغة العربية من الاستفادة من المبادرات والمشاريع المقدمة، بجانب نشر الوعي بأهمية المبادرات الشخصية والمؤسسية في تطوير استخدام اللغة الأم واختيار رائع لتعريبها وتطوير سبل الاطلاع على تجارب الأمم وثقافاتها وتعريف الشعوب والأمم الأخرى بالنتاج الثقافي والعلمي العربي الوفير، وفي ذلك ترسيخ لهويتنا وحفظ تراثنا وفكرنا وثقافتنا وحماية لأجيالنا الجديدة من فقدان أهم أداة ثقافية وتعليمية ولغوية نمتلكها، وتشمل جائزة محمد بن راشد للغة العربية «5 فروع» حيث تكريم المبادرات المتميزة والإسهامات الاستثنائية لدعم اللغة العربية في مجالات التعليم والإعلام والتعريب والتكنولوجيا وحفظ ونشر التراث اللغوي العربي.
جسر سلام ومحبة
تؤمن دولة الإمارات في مشروعها ذات الصلة بالحفاظ على العربية بالتنوع الثقافي واللغوي، لبناء مجتمعات إنسانية مستدامة، وتعمل في هذا الإطار للحفاظ على الاختلافات في الثقافات واللغات، بغية تعزيز نهج التسامح واستثمار اللغة العربية كجسر في إشاعة ثقافة السلام والمحبة والتعايش، بدليل تحقيقها للأمن الثقافي في التعامل واحترام ثقافات أكثر من 130 جنسية تعيش على أرض الدولة، سواء من خلال المدارس والجامعات الأجنبية المنتشرة في أرجاء الإمارات، أو من خلال المراكز الثقافية التي تدرس عديد اللغات غير العربية، بجانب تحقيق الترجمات الأدبية للعربية عن لغات مختلفة، وذلك انطلاقاً من تفهم واقعي لأهمية اليوم العالمي للغة الأم 2021، لتعزيز التعدد اللغوي من أجل التعليم الشامل والاندماج والمضي قدماً نحو بلوغ المبدأ الأساسي للدفع بعجلة التعايش واحترام ثقافة ولغة الآخر.