إعداد: مدني قصري
دوريان أستور Dorian Astor فيلسوف فرنسي ألماني متخصّص في نيتشه. في هذا الحوار يعود معنا إلى فكر الفيلسوف الألماني المثير للجدل، الذي غالباً ما يُساء فهمُه. وبمناسبة الذكرى الـ120 لوفاة فيلسوف «سيلس ماريا» Sils-Maria (البيت الذي كتب فيه نيتشه بعض أهم أعماله)! ونشْرِ مقال مارك دي لونايMarc de Launay الرائع، بعنوان «نيتشه والعِرق»، يقول الفيلسوف دوريان أستور إنه يتعين إعادة قراءة نيتشه، من جديد، مع الغوص في روح النص، والانتباه إلى ما تعنيه مفاهيم العِرق والإنسان الخارق «السوبرمان»، من حيث هي مفاهيم ذات دلالات جوهرية مختلفة عن مفاهيم اليوم. وفي هذه المقابلة يُرفَع الحجابُ عن فلسفة غالباً ما يتجاهلها كثير من المُعلّقين والنقاد. ويقترح دوريان أستور، لقُرّاء هذا الحوار جولة إرشادية في عالم أفكار فريدريك نيتشه، غير العادية.
* «من المستحيل»، قال نيتشه في «ما وراء الخير والشر»: «ألا يَحمل الإنسان في جسده أذواقَ وميول أسلافه. إنها مشكلة العِرق»! كيف نفهم التأخر زمناً في قبول مصطلح «العِرق» في كتابات نيتشه؟
** دوريان أستور: يَعتبِر نيتشه، بالفعل، العملياتِ البيولوجية، الطبيعية أو الوراثية، كحالة خاصة للكيفية التي يُدمِج بها الكائن الحي، قيوداً واشتراطات. وهذه القيود الأساسية، سيسمّيها، تالياً، القيم. ولهذا السبب نراه على مستوى علم الأحياء، وعلم النفس والثقافة، يسأل نفسه دائماً: كيف يُدمِج فردٌ أو شعب قيوداً وتصوّرات وقيماً ومُثلاً عليا، وهو ما يجعلها تَندرج في الأجساد، وتصبح لاشعورية. وبهذه الطريقة تمكث هناك، حتى تخلق ما يسميه نيتشه «الأنواع البشرية». وهنا يكمن العِرق بالمعنى النيتشوي. ولنأخذ مثالاً: عندما كتب نيتشه، في النصوص المتأخرة، في كتابه «نقيض المسيح»، مثلاً، جُمَلاً مروّعة مثل: «فلْيَمُتْ المرضَى، والضعفاء، والفاشلون»، نلاحظ أن هناك استراتيجية استفزازية، وندرك أنه يتحدّث خاصة عن كاهن. وهو ما يعني أن «العِرق»، في هذا النص، محدّدٌ من حيث الدين، والأخلاق، أي نظام من القيم: فهذه القيم في الحالة التي قصدها، هي العالم ما فوق الأرضي، المثالي، ورفض الجسد، والاستياء من الحياة، والعدمية.
* لا شك أنّ الاتهام بمعاداة السامية الموجه لنيتشه يجد تفسيره في زواج إليزابيث، أخته، مع فورستر ذي الصلة بنشر الأيديولوجية الآرية.
** إليزابيث، في رأيي الشخصي، ينبغي أن نكون مُمتنين لها بشيء مهم: لقد كانت تقدّر شقيقها كثيراً. ربما لم تكن تحبّه بشدة، ولكنها ظلت تقدّر أخاها للغاية طوال حياتها. ونحن مدينون لها بأرشيفات نيتشه، التي أسّسها في مدينة فايمار، وهي كاملة. وكانت مقتنِعةً تماماً أنّ شقيقها كان عبقرياً. وفي ذات الوقت تَعلم أنها غير قادرة على فهم تفكيره، وخاصة عندما ألقى نيتشه باللّوم على ما كانت هي نفُسها مقتنعة به، ألا وهو المعاداة الألمانية للسامية، ونزعة الوحدة الألمانية.
إلا أنها أيضاً لم ترَ في ملاحظات نيتشه ما كان مجرد نسخ. ففي كثير من الأحيان، كان نيتشه ينسخ اقتباسات دون الإشارة إلى المراجع. ولذلك نَسبت إليه ِجُملاً قام بنسخها ببساطة. ولحسن الحظ، في الستينيات من القرن الماضي، قام محرّراً طبعة نيتشه الكبرى، جورجيو كولي، ومونتيناري، بعملٍ تاريخي، من خلال نشر جميع «شذرات ما بعد الوفاة»، حسب ترتيب كتابتها، فتشظى بذلك المشروع الزائف حول «إرادة القوة».
وسواء تعلق الأمر بإليزابيث، أو في وقت لاحق بالمثقّفين النازيّين، الذين تساءلوا أيّ بطل في الثقافة الألمانية يمكن استخدامه لغايات إيديولوجية، كان في كل مرّة يُطرَح السؤالُ نفسُه: ما الذي نفعل به؟: فهو يملك الكثير من النزعة الأممية، والكثير من النزعة الأوروبية، والكثير من «الفيلوسامية» (اهتمام، واحترام، وتقدير للشعب اليهودي)، ومن المشاعر المعادية للألمان، التي لا تؤهله لأن يكون رمزاً للإيديولوجية النازية.
وبصرف النظر عن نوع من معاداة نيتشه للسامية، فإن الالتباس الكبير يأتي من النقد العنيف للغاية الذي يوجهه إلى الدين، أو بالأحرى لليهودية والمسيحية. ففي كتابه «في جينالوجيا الأخلاق»، يحلل مراحل دمج القيم المنتقلة من اليهودية إلى المسيحية، من الكاهن اليهودي إلى الكاهن المسيحي، ومن وجهة النظر هذه ينتقد اليهودية والدين بصفة عامة.
ويمكننا القول إنه شكلٌ من أشكال معاداة السامية، ولكن بناءً على ذلك، يجب اعتبار أنّ التهمة الموجّهة ضد المسيحية تذهب إلى أبعد من هذا بكثير. وفي كلتا الحالتين، فهو ليس عنصرياً. ففي كل ما يهاجمه، يُظهِر نيتشه إعجاباً كبيراً بالموضوع المستهدَف بالهجوم. فعندما يتحدّث عن الكاهن اليهودي، فإنه يصف هذا الأخير بالفنان. فالفنان شخصٌ صانعٌ للقيم، وقادر على تغيير العالم. ولطالما كان نيتشه مفتوناً للغاية بالمشرّعين الكبار، من الأديان السماوية، وغيرها.
* دعنا نعود إلى كتاب «نقيض المسيح». أنت تشير إليه مرتين بالقول إنه بمثابة «حُكم إعدامٍ فوق بشري»، وكذلك «مناهضة للمسيحية»! أي أنه أحدُ أكثر نصوص نيتشه تطرّفاً؟..
** إن «ضد المسيح» هو بالفعل أحد أكثر نصوص نيتشه تطرفاً، وخاصةً عندما ينظر المرء إلى النبرة القاسية الموجهة ضد المسيحية. علينا أن نقيس استراتيجية نيتشه الافتتاحية. ففي العام نفسه، كتَب «هو ذا الإنسان» Ecce Homo، وهو نوع من السيرة الذاتية الفكرية، التي كتبها بنغمة مختلفة تماماً، وإذا قارنتها بنص «ضد المسيح»، فسترى فيه نغمة أكثر رقة ودقة وأقل عدوانية. ثم هناك العام الأخير من حياته الواعية (قبل أن يصاب بمرض عقلي)، في 1888، حيث كتب الكثير من الأشياء -بما في ذلك «ضد المسيح»، وهو الكتيّب الذي كان ينوي توزيعه في جميع أنحاء أوروبا لخوض الحرب رسمياً ضد الأفكار، التي هي، حسب رأيه، المرحلة الأولى من «قلب القيم». ونيتشه يشير بوضوح شديد إلى «العدو» في رأيه: مروّج الضغينة والعدمية، أي الشخص الذي يؤسس قيماً معادية للحياة! وقد استخدم نيتشه لغة الحرب كثيراً في سنواته الأخيرة، ولكتاب «ضد المسيح» هذه الوظيفة القائمة على إعلان الحرب على القيم.
القيم التي دافع عنها والتي عمل عليها لفترة طويلة جداً، من خلال مشروعه في المسألة السلالية، وهو الذي طوّره من خلال شخصية «ديونيسوس». فالفلسفة الديونيسوسية ضد ما يعتبره العدمية. ويعتقد نيتشه أن هناك في الواقع عدة أوقات في المشروع الفلسفي: أولاً، الدراسة التاريخية لبعض القيم، أي جينيالوجيا وسلالية هذه القيم. ثم الحاجة إلى تحرير الإنسان من هذه القيم التي يستنتج أنها معادية للحياة -أي إنها تحط من قدر الإنسان! ولذلك سيكون من الضروري، تالياً، «قلب القيم»، والشروع في عمل حضاري والبدء في إحداث تغييرات كبيرة!
«زرادشت» والإنسان الخارق «السوبرمان»!
* فيما يتعلق بزرادشت، يتم التأكيد على أن ما يقال عن الفيلسوف ينطبق على حال الناسك عندما يخرج من الكهف: أي أنهما يختبران «ضائقة الحاضر»، والحاجة إلى العودة بين الناس، لإعادة تربيتهم.
** عزلة وفشل زرادشت، الذي جاء مرتين بين الناس ليعلن ويغرس فيهم مذهباً جديداً -عقيدة «العودة الأبدية» و«ما فوق البشر»- هو إدراكٌ أن هذا الأمر في النهاية لا طائل منه. يجد زرادشت نفسه في مواجهة عدم فهم كامل. يرى نفسه وقد غزاها أسوأُ الأعداء: تلك الأفعى في الحلق، ألا وهي تقزّز الإنسان. يحاول زرادشت التغلب على ذلك، ولكن الأمر معقد للغاية. كيف استطاع المشرعون ومؤسّسو المعتقدات أن ينحتوا ثقافات بأكملها إلى حدّ جعلِها تلِد أنواعاً بشرية جديدة؟ لم تعد الظروف اليوم مستوفاة للفيلسوف ليصبح مشرّعاً، على عكس العصر اليوناني. وهذا ما يُعذّب نيتشه. واليوم، صار الفيلسوف نوعاً من المذَنَّب (النجم) المنعزل، الذي يضيء لِلحظة في السماء ويختفي دون أن يترك أي أثر. وهذه العزلة، ظلت هي أيضاً تُعذّب نيتشه وحوّلت استراتيجياته الأدبية إلى تطرّف.
*ينبع سوء الفهم التاريخي بين نيتشه والنقاد من مفهوم الإنسان الخارق «السوبرمان»، الذي كثر الحديث حوله. ما الذي كان يقصده نيتشه بهذا المفهوم،هذا طبعاً قبل أن تربطه أخته إليزابيث بخطابٍ نازي؟
الإنسان الخارق، هو أوّلاً وقبل كل شيء شخصية تظهر فقط في «زرادشت». إنه شخصية أدبية وفلسفية، تتمثل وظيفتها، بشكل حصري في معارضة ما يسميه نيتشه «آخر إنسان»، أي الفرد الحديث، الساعي إلى المساواة، والأمن، وغياب مراجعة النفس، المتقهقر أمام أي مغامرة، وأي خطر، وأي شجاعة. أي الإنسان المتضائل المنكمش! وبالتالي فإن الإنسان الخارق هو الصورة المقلوبة لـ«آخر إنسان». فالإنسان الحالي إذن هو الإنسان ما قبل الأخير، الشخص الذي لن يستطيع لا المخاطرة، ولا خلق أي شيء. ففي زرادشت، يحذر نيتشه من الحداثة: يحاول الناسك، أمام الرجال المجتمعين في ساحة السوق، أن يجعلهم يرغبون في الإنسان الخارق، ولكنهم يسخرون منه. واقتراح الإنسان الخارق، يردّده زرادشت عدة مرات، يعني أنّ الإنسان شيء يجب تجاوزه! ليس بأيّ شيء آخر غيره، وإنما بشيء في داخل ذاته، أي إرادة تجاوز الذات، ليتحقق للإنسان السمو الذاتي والقيمي.
فالإنسان الخارق مرتبط بالحاجة إلى قلبِ (عكس) القيم. فسيكون الإنسان الخارق هو نمط مَن سيَقْلِبُون، القيمَ المعادية للحياة، ليصنعوا منها قيماً مواتية. ونعود إلى هذا المعيار التمييزي، عند نيتشه: هل هو مؤيد أم معادٍ للحياة؟ لأن العداء للحياة تعبير عن إرادة القوّة. لعل أحد أفضل تعريفات العدمية هو أن: «يفضل الإنسانُ العدم على ألا يرغب في أي شيء على الإطلاق».
رابط الحوار:
https://www.marianne.net/politique/pour-nietzsche-tout-vivant-pour-principe-fondamental-l-autodepassement