إبراهيم الملا
شغل الماجدي بن ظاهر الناس، قديماً وحديثاً، من خلال قصائده المكثفة وذات الدلالات العميقة، والزاخرة بالحكمة، والاستبصار، والبلاغة النابعة من مكابدة شخصية، ومن ترحال جسدي مضنٍ، وسفرٍ روحي فائض بالرؤى والتأملات، فصار نسيج وحده، وبات هو منبع الرواية وأصل الحكاية، وما احتشاد القصص والتفاسير والتأويلات حوله وعنه، إلّا دليلُ على تجذّر حضوره في أرض الذاكرة، وعلى قوة تأثيره في المخيال الشعبي المستند إلى الشفاهة ابتداءً وإلى التدوين انتهاءً، موزّعاً قصائده الباهرة على ضفاف الزمان والمكان، مطرّزاً سيرته بالشُبهة والوضوح، واللّبس والتوكيد، عارماً مثل هالة أسطورية تتغذى على خرافة كأنها حقيقةٌ، وعلى بداهة كأنها ظنُّ، مشتبكاً برائحة الرمل من مطلع الشعر إلى مغربه، فهو «الأيقونة» التي اجتمعت في حضرتها ملامح البيان، وسحر الكلام، ونقاء البصيرة، فصار إرثه مطلباً، وشعره مرجعاً، واستلهامه غايةً.
إنّ القراءة العامة والشمولية لنتاج ابن ظاهر الشعري، رغم ما يحيط بها أحياناً من لبس وتوجّس، تشير وبقوة إلى أننا نقف أمام شخصية غير عادية وتتمتع بمزايا متفرّدة، قوامها الحكمة والفلسفة والأسئلة الوجودية العالية جداً، والتأمل في عناصر الطبيعة، وتفكيك علاقاتها المتشابكة، مثل علاقة الرمل بالشجر، والماء باليابسة، وعلاقة الإنسان بالموت والميلاد، وغيرها من العلاقات التي تتطلب رؤية نافذة للولوج إلى أسرارها وخفاياها، إضافة لاختراق ابن ظاهر للنسق السائد في زمنه واستشراف المستقبل، وتحليل الواقع والسلوكيات الفردية والجماعية ومحاكمة الماضي، وغيرها من المزايا الباهرة لرجل عاصر مناخاً اجتماعياً قاسياً وظروفاً معيشية منهكة.
يمكننا وصف ابن ظاهر بأنه «الشاعر الموسوعة»، لأنه تناول في قصائده أموراً شتى، وقد تكون متباعدة ولا يجمعها رابط، فهو يتناول علم الفلك في بعض قصائده، وفي قصائد أخرى نجده أقرب لرجل الدين، بينما نراه في عدد من أعماله الشعرية يتطرق للأجواء المناخية والطبيعة الجيولوجية لعدد من المواقع الجغرافية القديمة والمهمة في الإمارات، ما يدلل على وجود نزعة «خيميائية» وماورائية في قراءته ونظرته لأحوال وتقلبات الحياة.
لهفة خفيّة
يقول الماجدي بن ظاهر في إحدى قصائده الموجهة للمحبوب، وهي قصيدة موغلة في ثنايا الوصف وجامحة في اشتقاق الروابط المجازية المنطلقة من «الدالّ» نحو «المدلول»:
«نظرت بها ريّانة غضّة الصبا / فتيجٍ رباها باسماتٍ ثغورها
على مثل جحوان فدا طلعة الندا / فكيفٍ إذا بانت حضايا خصورها
حسينٍ تبهّيها بعطرٍ لكن / رمى بدلٍّ يتلاها مداوي غدورها
عفا الله عنّي لا جرى ما وصفتها / كما جالي الظلما سنا صبح نورها»
يؤكد ابن ظاهر هنا أن المعاينة تأتي بالوصف الصادق لشكل المحبوب -خارجياً على الأقل- فرؤية المرأة التي يحب وهي ذاهبة لجلب الماء من البئر منحته مساحة بصرية كافية لضخّ قصيدته بالتفاصيل الظاهرة المتّصلة بلهفة خفيّة: فهي -أي المحبوبة-: ريّانة، غضّة، وباسمة الثغر، كما أن طلّتها المفاجئة بوجهها البهي، تشبه طلعة الندا، فكيف بباقي المزايا التي لا يريد ابن ظاهر الاسترسال في ذكرها، فيكتفي باللمح والإشارة والعبور السريع والخاطف فيما يتعلّق بالوصف الكلّي للجسد، وذلك حتى لا يهتك ستر العذرية في هكذا قصائد تنحو باتجاه المداراة والتعبير الضمني، ولذلك يقول: «عفا الله عنّي لا جرى ما وصفتها» في صيغة استدراكية لتجنب التأويلات المجحفة بحقّه، غير أننا نلحظ في المقاطع التالية للقصيدة استمرار التدفق الوصفي لدى ابن ظاهر، وكأنه غاب عن المشهد لوهلة ثم عاد إليه، فلم يقو على كبت مشاعره المستجدّة والفارضة لحضورها بعيداً عن ما ذكره في المقطع الأول، فيقول:
«لها مبسمٍ باهي به الوجه تايه / يفوق العطابيل الملا في حضورها
ألا يا خليلي أنت دايه ولي معك / دواية وعلّاتي وانتَ خبورها
تباطيت بالمنوى إيلين احضرو الّذي / على الروح مشتاقٍ رقيب يزورها»
نرى في هذه القفزة المشهدية المستأنفة، استسلام ابن ظاهر لجاذبية المحبوب وطغيان سحره عليه، فيؤكد مرة أخرى على سمة غالبة فيه، وهي البشاشة المعززة لجمال الوجه، وهي بذلك تتفوق بحسنها على حسن النساء المرافقات لها: «العطابيل» -وهي كلمة أصلها فصيح ومفردها «عطبول» وتعني المرأة الفاتنة الممتلئة أو الحسناء التّامة، والعطبل أيضاً هي الظبية الطويلة العنق- ويسترسل ابن ظاهر في ذكر محاسن محبوبته واصفاً إياها بالدواء القادر على شفاء علّة روحه ومرض فؤاده، كيف لا وهي الخبيرة بأحواله ومآلاته وطبيعة سقمه ونوازع أشواقه، الأمر الذي يدلّ على وجود وشائج متبادلة بين الطرفين أصلاً، وما القصيدة هنا سوى تجسير مضاعف لهذه الوشائج غير المعلنة، وهي قصيدة ترتحل بنا من منطقة الكتمان إلى منطقة البوح، لتقدم لنا نموذجاً مثالياً لطبيعة الشعر الغزلي في ميراث القصيدة النبطية المحلية، ذلك أنها طبيعة يغلب عليها الوصف الحسّي بمقاييس محدّدة لا تشتطّ في التبيين، ولا تغالي في الترميز، وهي تميل للاستئناس بمقصدها الشفيف والصادق، بعيداً عن الأوصاف الخادشة والمؤذية للذوق العام وللتقاليد المحافظة على سقف معلوم لبنية القصيدة الغزلية في سماتها ودلالاتها وانشغالاتها شكلاً ومعنى.
مسيرة بدأت قبل 300 عام
يجسد الماجدي بن ظاهر مسيرة تطور الوعي بالشعر النبطي في الإمارات، وهي مسيرة بدأت قبل ثلاثمائة عام تقريباً وتشعّبت إلى صنوف ومشارب وأغراض متعددة، أثرت هذا الشعر وضخّت فيه الحياة والحيوية والاستدامة المتوهجة حتى يومنا هذا، حيث إن الأصداء والمدارك والانتباهات الشعرية المتعلقة بالقصيدة المحلية، باتت تجتمع حوله وتعود إليه، باعتباره المرجع الأهم لكل الإسهامات المتوالية والأسماء اللامعة في فضاء الشعر النبطي على امتداد تاريخه الطويل ومناخه التعبيري المتنوع تبعاً للأمكنة والبيئات والأزمنة التي تم إنتاجه بها.
تقلبات عجيبة
شهدت حياة ابن ظاهر كما تداولها الرواة، تقلبات عجيبة، وتحولات غرائبية فيما يشبه المعجزات والكرامات، الأمر الذي يشي بغلبة عنصري الإثارة والمبالغة في متن هذه الروايات وفي هوامشها أيضاً، حيث تاهت بوصلة الرواة بين الأصيل والمنتحل وبين الأسلوب الصافي والآخر الدخيل على سيرته وقصائده، لذلك وجب أن تتضافر الجهود البحثية حول حياة ابن ظاهر في إطار عمل جماعي يستند إلى البحث الغزير والوافي حول الشخصية محل الرصد والتوثيق هنا، وبأبعادها السوسيولوجية والنفسية كافة، وتطورها الكرونولوجي، الناقل للانعطافات الكبيرة في سيرتها الذاتية، ونتائج هذه الانعطافات في تكوينها الإبداعي وفي تفرّدها النوعي واستقلالها المعرفي.
فمن الروايات الغريبة المحيطة بحياة ابن ظاهر والمبررة لتميزه شعرياً، تلك التي تقول إن ابن ظاهر كان شخصاً عادياً ولم يقل الشعر إلا بعد بلوغه الأربعين، وذلك عندما صادف في إحدى أسفاره امرأة غامضة وخرساء أشارت إليه بحاجتها لما عند ابن ظاهر من ماء وتمر، فلم يبخل عليها ولبّى طلبها رغم حاجته القصوى للزاد القليل المتبقي لديه، ما دفع المرأة الخرساء إلى النطق، ومكافأته وتعويضه معنوياً وبأضعاف ما يمكن تخيله، حيث يكتشف ابن ظاهر أن المرأة ما هي إلّا «جنّيّة» متمثلة في هيئة الإنس، وقالت له: «يعلك فاهم عالم»، أي جعلك الله فاهماً وعالماً، ومن هنا ربما جاء تبرير الرواة لوصف ابن ظاهر لنفسه في قصائده بالفهيم «يقول الفهيم المايدي بن ظاهر»، ويضيف الرواة أن ابن ظاهر عاد إلى أهله وهو ينظم القصائد البليغة بعد أربعين عاماً من الصمت الشعري، ولم ينافسه في جودة الشعر أحد، لأنه بلغ غاية الكمال وتوفّر على حكمة وفلسفة ورؤية لم يبلغها في ذلك الزمان غيره، لقد منحته «الجنّيّة» بركة الشعر، فصارت قصائده خالدة وباقية مثل سيرته، وأصبحت أشعاره جامعة لمزيج مدهش من النفاذية والاستبصار، والسحر والغواية، والعذوبة والفتنة.
وفي رواية أخرى تناولت سيرة الماجدي بن ظاهر، نرى وجود الجانب المتطّرف للسرد والمشير إلى أن ابن ظاهر قام بقطع لسان ابنته سلمى كي لا تقول شعراً أجمل من شعره، أو أنه اضطر إلى قتلها كما في رواية أخرى، قد تحتشد هذه الحكاية بما يكفي من طغيان ذكوري وإقصاء متعمد للمرأة عند اقترابها من فن مقصور على الرجال وحدهم في بيئة تحتكرها الفحولة قولاً وعملاً، وإذا أردنا الالتفاف حول مقاصد هذه الحادثة العنيفة، والتخفيف من قسوتها، فإن قطع لسان سلمى، يعني حبس كلامها ومنعها من قول الشعر ولا يعني البتر مطلقاً، كما أن حادثة قتل ابن ظاهر لابنته فيه من التشنيع والتجريم ما يعارض تصديق الرواية أو الجزم بها أصلاً، خصوصاً أن ابن ظاهر اشتهر بالورع والزهد وإيراده لصور تعذيب القتلة والمجرمين في الآخرة، وشعره زاخر بهذه الصور الرادعة والمهيبة، فكيف يمكن لابن ظاهر أن يساهم في كل هذا الهدر الأنثوي، والإجحاف المعنوي، والتنكيل الجسدي.
وهكذا أيضاً، يمكن لنا أن نقرأ سيرة وأشعار ابن ظاهر من زوايا متعددة، لأنها تنطلق من بوح عميق وقول غزير وانتباهات متدفقة في زمن بدا مجهولاً لكل من تتبع سيرة ابن ظاهر، وسط أحداث لم ينجح المؤرخون في تفكيك طلاسمها، ولم يعثر الباحثون على مفتاح لأبوابها المغلقة، فما بقي فقط هو أقوال وتخمينات وإشارات ترجّح وتقدّر وتحوم حول الفترة التي عاشها «الفهيم» ابن ظاهر، بينما يقبع المعنى الحقيقي خلف كل هذه الأسوار الترجيحية العالية، وخلف كل هذه الأسرار المتراكمة وسط قصائد مفعمة بعوارض القلق، وهو عارض مطلوب إذا تعلّق الأمر بتوليف الكلمات المغايرة، وسبك التصاوير المتفرّدة، وامتحان الموهبة، والركون إلى ما هو عصيّ على الترويض، وهذا القلق لن يكون ذهنياً فقطا بل مادياً وملموساً وشبيهاً بما خبره ابن ظاهر من مكابدة جسدية في أسفاره وفي حلّه وترحاله، وهي مكابدة تنبع من مشقة وعذابات وتشظيّات روحية ذكرها ابن ظاهر في قصائده بحيثياتها وتفاصيلها، قبل أن يشرع المؤرخون في الكتابة عنه، وتتبع أحواله وحكاياته، والدخول في ضروب من التأويلات غير الجازمة حول الفترة التي عاشها والأحداث التي صاغت شخصيته، وخلّدت حضوره، وصنعت تأثيره الجامح والملهم إلى اليوم.
مبدع من القرن الـ 18
تشير أغلب الآراء والدراسات المتعلقة بسيرة وحياة ابن ظاهر إلى أنه عاش في القرن الثامن عشر، وأنه ولد بمنطقة «الخرّان» في إمارة رأس الخيمة حالياً، وذلك في العام 1781م تقريباً، وتوفي بنفس المنطقة في العام 1871م، ويذكر عدد من الرواة أن ابن ظاهر قد أجرى بعض التجارب على الأراضي التي أحب أن يدفن فيها بعد موته، وكانت لديه عظام وأقمشة وخيوط من الصوف يدفنها في التراب حيثما حلّ، ثم يعود لنبشها فيجدها وقد أكلها التراب، إلاّ التي دفنها في أرض منطقة «الخران» وجدها باقية على حالها لم تتغير، لذلك أوصى بدفنه فيها.
وسبب ترجيح الرواة ولادة ابن ظاهر في النصف الثاني من القرن الثامن هو وجود قصيدة له يمدح فيها أحد أئمة الدولة اليعربية، وهو «سيف بن سلطان اليعربي» الملقب بقيد الأرض، غير أن للباحث الدكتور «فالح حنظل» رأياً مختلفاً هنا، فهو يرجّح أن الماجدي بن ظاهر عاش في نهاية القرن السابع عشر إلى أواسط القرن الثامن عشر الميلادي، ويشكك فالح حنظل بصحة قصيدة المدح الموجهة من ابن ظاهر إلى قيد الأرض، ذلك أن الفترة التي حكمها قيد الأرض شهدت أحداثاً جسيمة وأموراً عظيمة لم يذكرها ابن ظاهر مطلقاً في قصائده.