إيهاب الملاح
لم يكن الشاعر الكبير رفعت سلام الذي رحل عن عالمنا ظهر الأحد الماضي عن 69 عاماً تقريباً، بعد صراع مرير مع مرض السرطان، مجرد اسم بارز ضمن أسماء الشعراء الكبار في نصف القرن الأخير. بل إن قيمة رفعت سلام تتجاوز هذه الألقاب والأوصاف والمعاني التي ترددت طيلة الأيام الماضية عقب وفاته، كي تحيط ولو بشكل جزئي بمنجزه الضخم الذي قدمه للثقافة العربية عبر رحلة حياته التي امتدت من سنة الميلاد 1951 وحتى رحيله في الشهر الأخير من 2020.
وإن يكن لا مفر من إيراد ذلك، نعم كان رفعت سلام أحد أبرز وأهم شعراء السبعينيات في مصر، وأحد أعلام شعر الحداثة العربية في موجتها الثانية (أو الثالثة حسبما يرى البعض)، وصاحب المنجز الشعري والأدبي والثقافي رفيع المستوى.
- 1 - في عنفوان الطلب والبحث، كان طالباً فتياً بكلية الآداب، مطالع سبعينيات القرن الماضي، حينما التقى الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور (1930-1981)، فكانت الومضة الشعرية والإنسانية الزاهية التي ألهمت الشاعر الشاب بكل معاني الطموح والركض بكل ما أوتي من طاقة وشغف وتوق لتأسيس تجربة شعرية جديدة، تمتاح من كل آفاق الشعريات السابقة، إنه نهج صلاح عبدالصبور ذاته فلو لم يكن قرأ كل تراث الشعر العالمي والعربي لما أنجز قصيدته التي تعيش بيننا حتى الآن.
وفي يوليو من عام 1977 (بعد تخرجه في كلية الآداب قسم صحافة 1973) صدر العدد الأول من مجلة «إضاءة 77» البيان التأسيسي لشعرية السبعينيات المغايرة، مجلة شعرية يصدرها على نفقتهم الخاصة أربعة شعراء غير معروفين آنذاك (سيصيرون الأقطاب الأربعة والمربع الذهبي لقصيدة الحداثة المصرية في العقود التالية)، وهم: حلمي سالم، رفعت سلام، جمال القصاص، وحسن طلب.
وقد صدرت المجلة باستقلال كامل عن أي مؤسسة رسمية أو جهاز حكومي، ولم يكونوا نشروا من قبل إلا قصائد متفرقة هنا أو هناك. ويقول رفعت سلام عن هذا التأسيس:
«بدا العدد الأول كحجر ألقي في بحيرة راكدة.. كتابة غريبة، صادمة، متصادمة، منذ افتتاحية العدد الأول، مع التيارين اللذين يسودان الساحة الأدبية آنذاك: التيار التفعيلي، الذي يعلي من شأن الوضوح وسلاسة اللغة الشعرية وانضباط الوزن، وتيار الواقعية الاشتراكية الذي يعلي من شأن الجمهور وضرورة التفاعل معه».
وجاءت «إضاءة 77» لتحرك الماء الراكد، وتفتح صفحاتها «الفقيرة» -بوصف رفعت سلام نفسه- لنصوص شعرية تجرّب في كل اتجاه، شرط «المغايرة» و«التمايز»، تحمل أسماء مجهولة بلا رصيد سابق، متحررة من الشروط السائدة في الكتابة، في الخيال، في رؤية العالم، واللغة والصورة الشعرية. كانت فاتحة جيل شعري تعلن أن الحرية المتاحة أضيق من الروح والخيال وأن ما تبقى من قيود عبء باهظ بلا جدوى.
هكذا انطلق صوت السبعينيين صارخاً في برية الإبداع، واحتل رفعت سلام مكانه الوقور بين سادة هذا الجيل ونبلائه، وصار الأب الشرعي والروحي للقصيدة الجديدة «قصيدة النثر» العربية التي ما زالت تقاوم انغلاقات الواحدية والتسفيه والنبذ والرفض والقبول!
- 2 - «بحثا عن الشعر» و«ما الشعر»، كتابان تأسيسيان للشاعر الذي يتأمل تجربته وموقعها في سياق التيار الفني الذي يعي جيداً أنه يؤسسه على رؤى مغايرة ومفاهيم وتصورات مختلفة للشعر والشعرية والإيقاع والتصوير وتخليق قصيدة جديدة تمتاز بتركيبها وتعقد مستوياتها وتداخلاتها دون الانزلاق إلى تلافيف وتهاويم اللادلالة وعدميتها!
لا يمكن لدارس الشعر ونقده ومؤرخه أن يمر مرور الكرام على مقدمات ومراجعات ودراسات رفعت سلام الناصعة التي تؤسس لقصيدة النثر وتموضعها في مسار وتطور حركة الشعر العربي الحديث كله. ولا أنسى مقدمته الفذة للكتاب التنظيري الأهم «قصيدة النثر» لسوزان برنار من ترجمة راوية صادق، ومراجعة وتقديم رفعت سلام. فثمة قلة من المبدعين والنقاد الذين يستطيعون استمطار الجمالية المميزة للقصيدة عموماً ولنوع معين منها يتسم بتمرده وتخلقه الدائب غير المستقر ولا الساكن، ورفعت سلام يمتلك هذه المقدرة لأنه من البداية أدرك أن عليه امتلاك اللغة، والخيال، والتصوير، والبحث عن المغايرة طوال الوقت.
ويؤكد رفعت سلام طوال الوقت أن قصيدة النثر في ذاتها لم تكن الشغل الأساسي والمنجز الرئيسي لشعراء السبعينيات في مصر (وهو في القلب منهم)، حيث يقول إن الشعراء اكتشفوها في سياق تجربتهم وتطورهم الشعري الذاتي، كأحد الآفاق المفتوحة الممكنة أمامهم، دون أن تكون هي بذاتها شاغلهم أو هدفهم المسبق، فجاءتهم طائعة في بحثهم الحر عن القصيدة.
- 3 - كان «رفعت سلام» صوتاً شعرياً فريداً، لا يشبه سوى ذاته، افتتح -مع آخرين- سبعينيات الشعر المصري والعربي، ولكنه سرعان ما انطلق -خارج السياق- في تأسيس سياقه الخاص، وتجربته الفارقة في تعدد الأصوات، وتعدد البنية الشعرية، وإعادة صياغة الصفحة الشعرية على غير مثال، وفتح فضاء القصيدة على مصاريعه، بلا قيود أو حدود.
كان شاغله الأساسي «توسيع أفق القصيدة وفتحها على مصاريعها بلا ممنوعات أو محرمات، شعرية أو أخلاقية أو اجتماعية في مواجهة ما آلت إليه القصيدة التفعيلية من انغلاق وركود وبلادة، وما آل إليه التفعيليون من محافظة وعداء لكل تجديد». وفي عام 2013 صدرت أعماله الشعرية الكاملة في مجلدين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد آثر تسميتهما بديوان رفعت سلام بدلاً من الأعمال الكاملة، المجلدان اللذان جمعا دواوينه المنشورة منذ «وردة الفوضى الجميلة» الذي صدر في عام 1987 وحتى «هكذا تكلم الكركدن» الصادر في عام 2012. أعماله الشعرية الجسورة التي يصفها بعض النقاد بـ«مغامرة حتى الحدود القصوى الممكنة -حتى الآن- وشعرية تؤسس للخروج على كل الأنماط، بلا سعي لتأسيس نمط جديد، خروج على ثنائية التفعيلي والنثري، وعلى كل الأعراف السابقة أو الراهنة.. إنه «سفر خروج» شعري، من المعروف إلى المجهول، من المملوك إلى العصي على الامتلاك».
- 4 - وبالإضافة إلى منجزه الشعري الباذخ والماثل بشموخ وتفرد في أعماله الكاملة الشاهدة على التمرد والخروج على المعطيات التقليدية فيما ترسخ لنفسها مساراً شعرياً رائداً ورائعاً في مسيرة الشعر العربي، قدم رفعت سلام أيضاً للمكتبة العربية منجزه غير المسبوق في ترجمة روائع الأعمال الشعرية لكبار أعلام الحداثة وما بعدها في الشعر الغربي.
فقد قدم رفعت سلام للمكتبة العربية إنجازاً غير مسبوق باضطلاعه بترجمة أشعار كل من «بودلير» و«رامبو» و«والت ويتمان» و«كافافيس» و«يانيس ريتسوس»، آباء الحداثة الشعرية الغربية بامتياز، وترجم أيضاً مختارات شعرية عديدة مثلت أهم وأبرز الاتجاهات الشعرية الحداثية في أوروبا وأميركا، كل ذلك بالتوازي مع إسهاماته النقدية والنظرية لتأسيس شعرية عربية مغايرة، وانغماسه بنشاط وهمّة في المجال الثقافي العربي طوال خمسين عاماً.
ولذا يصفه بصدق الناقد والمثقف محمد عبدالباسط عيد قائلاً: «لم يكن رفعت سلام مجرد شاعر طليعي فحسب، ولم يكن مجرد مترجم لآباء الحداثة الغربية فحسب، كان مشروعاً يسير على قدمين.. وكان إلى جوار ذلك مثقفاً نبيلاً، يعرف أين يضع المثقف قدمه، فلم يتنازل عن مبدأ، ولم يتزلف لأحد، ولم يفقد يوماً بوصلة المثقف: الحق، العدل، الحرية، المساواة».. هكذا عاش فعلاً، ومات مصحوباً بالمحبة والألم.. والسيرة لا تموت وإن رحل صاحبها.
رفعت سلام (1951 - 2020)
شاعر مصري كبير، ولد في منيا القمح بمحافظة الشرقية، وتخرج في كلية الآداب، قسم الصحافة (1973). يعمل منذ عام 1977 محرراً ثقافياً بوكالة أنباء الشرق الأوسط بالقاهرة، وهو عضو بالمكتب التنفيذي لهيئة ثقافات البحر المتوسط برودس.
نشر أول قصيدة له، وهي من القصائد العموديّة عام 1968 في مجلة «الآداب» البيروتيّة، ثم كتب ما يعتبره أولى قصائده المهمّة، وهي قصيدة «منية شبين» (1975). وقد ارتبط بجماعة «إضاءة» الشعرية (1977) التي اتخذت لها صوتًا كتابيّاً في مجلتها المعنونة باسمها، وجمعت بين رفعت سلام، وحلمي سالم، وجمال القصاص، وحسن طلب، وكل منهم استقلّ بإبداعه واحتل مساحة واسعة في ساحة الشعرية، ثم تركها ليؤسس ويصدر مجلة «كتابات» الأدبية التي صدر منها ثمانية أعداد.
صدر له سبعة دواوين شعرية: «وردة الفوضى الجميلة» (1987)، «إشراقات رفعت سلاَّم» (1992)، «إنها تُومئ لي» (1993)، «هكذا قُلتُ للهاوية» (1995)، «إلى النَّهار الماضي» (1998)، «كأنَّها نهاية الأرض» (1999)، «حجرٌ يطفو على الماء» (2006)، وهكذا تكلم الكركدن.. وصدرت أعماله الشعرية الكاملة في جزأين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (2012 - 2013).
وكان آخر ما صدر له من دواوين شعرية «أرعى الشياه على المياه» الصادر عن دار مومنت لندن 2018.
له في الترجمة أعمال متعددة، من أهمها: «بوشكين: الغجر..وقصائد أخرى» (1982)، «ماياكوفسكي: غيمة في بنطلون.. وقصائد أخرى» (1985)، «كربرشويك: الإبداع القصصي عند يوسف إدريس» (1987)، «شارل بودلير الأعمال الشعرية الكاملة» (2010)، «قسطنطين كافافيس الأعمال الشعرية الكاملة» (2011)، «آرثر رامبو الأعمال الشعرية الكاملة» (2012)، «والت وايتمان أوراق العشب الأعمال الشعرية الكاملة».. وغيرها. حاز جائزة كفافيس الدولية للشعر عام 1993.
وقبل وفاته بسنوات قليلة، ترأس رفعت سلام سلسلة (آفاق عالمية) وافترع منها سلسلة جديدة بعنوان «الروائع المائة» أو «المائة كتاب» قدّم فيها ترجمات عربية جديدة ورصينة لكلاسيكيات النصوص الأدبية في التراث الإنساني، فكانت سلسلة داخل السلسلة تستهدف تحقيق هدف محدد: تقديم أهم مائة عمل أدبي في الثقافة العالمية، وصدر منها بالفعل قرابة الـ25 عنواناً شملت «دون كيشوت» عن الإسبانية، و«الديكاميرون» عن الإيطالية، و«مائة عام من العزلة» لماركيز، و«بيدرو بارامو» لخوان رولفو.. وقدم رفعت استقالته من رئاسة تحرير السلسلة في عام 2017 بعد أن تعرض لمضايقات بيروقراطية عطلت صدور الترجمات المنجزة.