إيهاب الملاح (القاهرة)
«بساتين البصرة» أحدث إصدارات الكاتبة والروائية المصرية المعروفة منصورة عز الدين؛ بغلاف بديع ولافت للفنان عمرو الكفراوي. صدرت الرواية منذ شهرين تقريباً، وكان مقرراً لها أن تصدر قبل ذلك لولا كورونا.. تخبرني صاحبة «جبل الزمرد»:
«صدرت الرواية في أغسطس - سبتمبر 2020 وكان مقرراً أن تظهر قبل ذلك لكن ظروف وباء كورونا، وما جرى في العالم كله كان له تأثيره علينا في مصر بطبيعة الحال، فتأجل صدور الرواية عدة أشهر إلى أن ظهرت في التوقيت الذي ظهرت فيه».
كان منطقياً أن يكون السؤال عن الرواية التي تعالج بصورة أو أخرى موضوعاً متصلاً بالتراث العربي؛ فالعنوان يحيل بداهة إلى البصرة العراقية القديمة بكل ما تحمله من فائض تراث روحي؛ وفلسفي وكلامي معروف في التراث العربي.
سألتها بالدقة عن ماهية «بساتين البصرة».. الفكرة والإنشاء والكتابة.. بدقتها المعهودة تجيب:
الرواية فكرتها تصاحبني منذ خمسة عشر عاماً تقريباً، كنت طالبة في كلية الإعلام، وكنت شغوفة بكتب التراث العربي، وقرأت حينها كتاب «تفسير الأحلام الكبير» المنسوب للإمام محمد بن سيرين؛ ومن وقتها وهو من الكتب الأساسية التي أداوم على قراءتها بشكل متواصل.. من ضمن الأحلام التي أوردها في كتابه، حُلم يتحدث عن ملائكة تجمع الياسمين في بساتين البصرة بالعراق. وأورد ابن سيرين تفسيراً للحلم على لسان الإمام الحسن البصري يقول إن معناه ذهاب علماء البصرة أو رحيلهم بمعنى غيابهم وموتهم. ثم ظهرت أول تأثيرات قراءتي لكتاب ابن سيرين في رواية «وراء الفردوس»، وإن بشكل هامشي وليس أساسياً.
خايلتني بعد ذلك التأويلات المتعددة لفكرة ورود الياسمين في الأحلام.. لكن ظل هذا الحلم بالذات ملازماً لي وشغلني سنوات طويلة بعد، حتى بتّ على يقين من أنني لا بد، في يومٍ من الأيام، سأكتب عنه أو حوله نصًّا ما. الحلم هنا صار مادة خصبة للخيال يفتح على احتمالات فنية لا نهائية.
فعلياً متى شرعت في كتابة الرواية.. وكم من الوقت استغرقت لإتمامها؟
عقب فراغي من مجموعة «مأوى الغياب» (صدرت عن دار سرد في يناير 2018). في فبراير من السنة ذاتها، شرعت في كتابة «بساتين البصرة». لكن العمل الفعلي الجاد بدأ في خريف 2018 حينما سافرت إلى شنغهاي في الصين لإقامة أدبية كاملة، فأتيحت لي الفرصة لإنجاز كتابة الرواية. ورغم أنني أتممتها في وقتٍ يسير للغاية، فإنني لم أدفع بها للنشر فوراً، وتركتها في درج المكتب (وهذه عادة من عاداتي في كتبي كلها) حتى أقوم بالمراجعات والتنقيحات التي أحب أن أجريها قبل الدفع بنشر أي عمل لي.
منصورة عز الدين من الكتاب الذين يولون اللغة الروائية اهتماماً كبيراً وخاصاً.. هل ستتنوع الأساليب الروائية داخل «بساتين البصرة، كما رأينا مثلا في «جبل الزمرد»؟
نعم. كانت فترة المراجعة تنصب بالأساس على إجراء التنقيحات اللغوية للرواية؛ اللغة هنا ليست جارية على نمط واحد، فلكل عصر ولكل شخصية لغتها المعبرة عنها، والمناسبة لها، محافظة على خصائها الثقافية والاجتماعية والإنسانية، وكل ذلك دون أن تقع في فخ التعقيد أو الغموض. كان ثمة تنويعات لغوية بطريقة مخصوصة؛ فهناك محاكاة للغة القديمة التي تناولت البصرة التراثية ووصفها وتخطيطها.. وثمة أسلوب روائي فصيح ورصين يجري على لسان بطل الرواية هشام خطاب وتعبر عن تكوينه وثقافته. وهناك مستوى لغوي يستفيد من العامية والأغنية الدارجة والمثل الشعبي ومفردات الثقافة الراهنة، كما جرت على لسان مرفت حبيبة البطل.. إلخ
حاولت واجتهدت في صياغة هذه الأساليب المتباينة، وأتمنى أن أكون وفقت في ذلك، أو هذا ما أرجوه.
ثمة فصل قصير يدور بأكمله على لسان واصل بن عطاء المعتزلي؛ تلك الشخصية التراثية الشهيرة.. كيف جاء اختياره فنياً ليكون شخصية روائية في «بساتين البصرة»؟
لو تذكر منذ كنا صغارا ندرس الخطبة الشهيرة له (أظن ونحن في الصف الأول أو الثاني الثانوي) تلك الخطبة التي تجنب فيها تماماً استخدام حرف الراء. منذ درسناها في المرحلة الثانوية، وأنا مفتونة بهذه الفكرة التي تدور حول الشخص الذي يكابد ويعاني اللغة ويدخل معها في مباراة صراعية محتدمة، يستطيع في النهاية أن يتغلب عليها وأن يخضعها لأغراضه وخطاباته.. وينجح في أن يتفادى حرفا معينا من حروف هذه اللغة في خطبه وأحاديثه واستخداماته اللغوية عموماً.
أحببت هذا النوع من اللعب الفني واللغوي في صياغة الفصل كله دون حرف الراء مع الحرص طوال الوقت ألا يبدو هذا مفتعلاً أو متكلفاً أو هذا ما أرجوه.
أخيراً.. ما المشروع التالي الذي يخايل منصورة عز الدين ويناوشها كي يخرج إلى النور؟
أثناء عملية المراجعة والتنقيح قمت بحذف 12 ألف كلمة بعد كتابتها، كانت تمثل محوراً كاملاً من محاور الرواية. قد يكون هذا المحور في حد ذاته بالنسبة لي «حلو جداً» وتمكن قراءته والاستمتاع به بشكل رائع، لكن في السياق الكلي للرواية شعرت بأنه يثقلها ولن يكون مفيداً لها فحذفته كله، واعتبرته نصّاً مستولداً عن «بساتين البصرة» أعمل عليه كنوفيلا الآن. وأتمنى أن أنتهي منها قريباً.