فاطمة عطفة (أبوظبي)
فرصة جديدة وفسحة هادئة يتيحها لنا شهر رمضان المبارك، لنعيد النظر في برنامج حياتنا والاستفادة من ساعات يومنا في اكتساب زادٍ ثقافي جديدٍ ما أمكن. وفي حديث الروائية لولوة المنصوري، ولو عن بُعد، يشعر المحاور أن موهبتها الأدبية حاضرة ومتوهجة، حيث تشير بداية إلى أن الإنسان يحتاج أحياناً إلى (قراءة توطئة للقراءة)، تهيئة شعورية وروحية مبشرة بقراءة عميقة لهذه التوطئة، إذ ليس شرط القراءة أن يكون مصدرك كتاباً، أحياناً تحتاج إلى قراءة ذاتك ومراجعتها بعمق وحكمة، وتفريغها من الضجيج، في عصر بات التلقي فيه عبثياً ومزدحماً بفوضى الثورة المعلوماتية. فإلى جانب إحداثها النقلة المعرفية في الزمن القياسي، إلا أنها في المقابل أربكت نظام التركيز والتذكّر، فأغلب ما نتلقاه اليوم، على نحو مستعجل، قد يكون مصيره النسيان والتفتت مع متراكمات الزمن، لأنه قوبل في البدء ببيئة ذهنية مشوشة، مفتقدة للصفاء والتمعن، مناخ مقترن بزحمة الأحاسيس، وتضارب المهام اليومية التي تعكر، كعادتها، صفو الرؤية.
لكن، ماذا عن هذا الشهر الكريم؟ تجيب المنصوري: نعم، يأتي رمضان حاثاً على تغيير نمط الحياة، ومنها عادات القراءة. في البدء، أولاً، بالتصفية من الضجيج وقراءة النفس بمحبة وتقبل، بتنبه لحدسنا الأول، بالتحرر، ولو جزئياً، من سيطرة عادات التفكير المتشكلة، كإحدى نتائج الاحتكام بالفروض الاستهلاكية، والاحتكاك بالاختبارات الحياتية المألوفة، والمجاملات الاضطرارية المكرهة.
وتضيف: هذا التمرين الرمضاني الأول على قراءة التوطئة - القراءة المرتدة إلى الداخل العميق - لهي قراءة مُحِبّة ومشفقة على الذات، بعيداً عن التهكم بالنفس أو الهزء الانتقادي، ثم تأتي مرحلة الإقبال على قراءة مختلف ضروب الفن والإبداع الإنساني: قراءة لوحة/ معزوفة/ مكان/ أثر/ زمن/ ألبوم صور/ رسائل قديمة، أو مراجعة المعارف المستحِثّة على المتابعة والمتعة، والقدرة على الاستدلال، وبذل جهد السؤال بالبحث في المناطق المجهولة.
وتتابع المنصوري، لافتة إلى أهمية القراءة في مواجهة الظروف الطارئة، لأن القراءة في رأيها فعل تعايش.. ترقٍّ.. وعبور بطيء.. بدءاً بمحايثة الألم ومواجهة العقدة، وانعطاف إلى النمو في الطريق والتطور المعرفي، ولعل الجائحة الوبائية الصادمة هي مؤشر تنبيه لضرورة الموازنة الشعورية والتحكم بالتلقي الفوضوي، وإنذار غيبي خارجاً عن مستويات التحليل العقلي، إلى ضرورة الالتفات نحو الوازع الخفي الطبيعي، الذي يمكننا من مناهضة الخصائص المتباينة في المجتمعات الحداثية المعتمدة على التباهي العشوائي بالتراكم القرائي المتسارع، تسارع شوّش درس الطبيعة، ولم يسمح لتأسيس معرفة موضوعية متكئة على التأني، فالقراءة باتت في الآونة الأخيرة - على الأغلب - مصدراً شكلياً كمّياً.. دون تعاطف نابض بالمعايشة المؤلمة.
وتختتم لولوة المنصورة قائلة: في رمضان أكتب، وأقرأ، وأصغي للأصوات التي أحب، حسب حاجتي ووقتي المتاح وخططي المنسقة، أحدد كتاباً يتناسب مع رحلة رمضان، وما بين الامتلاء الروحي والفراغ الجسدي، أجدني أتذبذب في نسق غذائي جديد، غذاء الخيال بالإصغاء والتنفس البعيد، الذي من شأنه أن يغذي فراغ الصفحة بالكثير من التصورات المطعمة بالحقائق وحيلة الأفكار الوليدة النابتة، منها خطط الكتابة واللعب بخيوط المخيلة، لكن الشعر يجذبني في هذه الأزمة، قراءة وكتابة، وإن كانت الكلمات المنعتقة موسومة بالتقطّع والتبدد، إلا أنه لا وجود لكوكب آخر في رؤاي، يجنح نحو منازل الضياء والتحرر والتجرّد من كثافة المصير المجهول، والنفاذ إلى أدق أسرار القلب، إلا بالخطاب الشعري ومحاولة التنفّس شِعراً. الشعر هو أصل تكون الأشياء، والجذر الأول للكينونة، هو التوطئة العفوية لقراءة الحياة، والتصفية الأنيقة من الضجيج والقلق الكونيّ.