عاطف عبدالله (أبوظبي) فقد الروبل الروسي حوالي 70% من قيمته مقابل الدولار الأميركي منذ بداية الحرب الأوكرانية حتى مطلع شهر مارس الماضي، حيث تراجعت قيمته من حوالي 80 روبلاً للدولار الواحد في 23 فبراير 2022 ليلامس مستويات منخفضة بحلول 7 مارس الماضي عند 139 روبلاً لكل دولار. ولكن لم يستمر الوضع على هذا الانخفاض، حيث استطاع الروبل أن يصبح العملة الأفضل أداءً في العالم هذا العام، مُسجلاً مستويات أفضل من قبل الحرب، ليصل إلى نحو 60.55 روبل لكل دولار. فكيف حدث ذلك؟
تجميد أصول وعزل بنوك
يرجع انخفاض سعر الصرف الروبل في بداية الحرب الأوكرانية إلى العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو، والتي تمثل أبرزها في تجميد أصول البنك المركزي الروسي لدى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وعزل بعض البنوك الروسية عن نظام «سويفت» العالمي. لكن سرعان ما اتخذت السلطات الروسية خطوات مكثفة لدعم عملتها، مثل قرار بيع الغاز بالروبل، وربط الروبل بالذهب، بهدف التأكيد على مكانة روسيا كقوة كبرى لديها القدرة على التأثير في النظام المالي العالمي.
وتشير دراسة لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة إلى أن جهود الحكومة الروسية ارتكزت على ثلاثة جوانب رئيسية للحد من انكشاف اقتصادها على الدولار الأميركي وهي خفض حصة الدولار من الاحتياطي النقدي الروسي واستبداله باليوان واليورو، ولهذا خفض البنك المركزي الروسي حجم الاحتياطيات النقدية المُقومة بالدولار بأكثر من النصف بين عامي 2013 و2020. فيما أعلن وزير المالية الروسي، في يوليو 2021، عن خطط للتخلص نهائياً من الأصول المقومة بالدولار في المحفظة الاستثمارية لصندوق الثروة السيادي الروسي.
استخدام العملات المحلية في التجارة الثنائية
ووفق الدراسة، التي أعدتها الباحثة بسنت جمال، فإن موسكو سارعت إلى إبرام اتفاقيات متنوعة مع عدة حكومات أخرى لإعطاء الأولوية لاستخدام العملات المحلية في التجارة الثنائية، بهدف خفض حصة الدولار في التجارة الروسية مع الدول الصديقة.
كما أنشأت روسيا نظام دفع إلكتروني محلي جديد يُسمى «مير» MIR، كما أطلقت في السنوات الماضية نظاماً لتبادل الرسائل بين البنوك يُطلق عليه «SPFS»، للعمل كبديل لنظام «سويفت» العالمي، وذلك للحد من اعتماد موسكو على البنية التحتية لنظام المدفوعات الدولية.
وأبرزت الدراسة مؤشرات عدة تؤكد الخطة الروسية للتوسع في استخدام الروبل في التجارة الدولية منها الاعتماد على العملات المحلية في التبادل التجاري، إذ سعت القيادة الروسية، وحتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية الحالية، للترويج إلى مبدأ الاعتماد على العملات المحلية في التجارة الثنائية مع الدول الأخرى، مدفوعة في ذلك بالتنافس الجيوسياسي مع الولايات المتحدة، وعلى نحو أسفر عن انخفاض حصة الدولار في التجارة الروسية من 67% في عام 2018 إلى 56% في عام 2020، مع زيادة حصة اليورو من 17% إلى 27%، والروبل من 13.6% إلى 14.7% خلال الفترة ذاتها، حسب تقديرات البنك المركزي الروسي.
علاوة على ذلك، زادت روسيا حصة الروبل في علاقاتها التجارية مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي من 54% في عام 2013 إلى 70% في عام 2019، وفقاً لمركز التصدير الروسي الحكومي.
ومع تصاعد العقوبات الغربية الأخيرة ضد روسيا، أعلنت دول مثل أرمينيا وإيران وتركيا عن نيتها لتبني آلية سداد للسماح باستخدام الروبل الروسي في التبادل التجاري مع موسكو؛ بهدف تعزيز علاقاتهما التجارية، والالتفاف على العقوبات الغربية ضد روسيا.
بيع الغاز بالروبل
وللحد من ظاهرة «البترودولار»، نوهت الدراسة بسعي روسيا لتعزيز الروبل كعملة مُعتمدة لتسوية مبادلات الطاقة الدولية، وأصدرت موسكو مرسوماً في مارس 2022 يقضي ببيع الغاز والنفط الروسي إلى «الدول غير الصديقة»، وفقاً للتعبير الروسي، بالروبل بدلاً من الدولار واليورو، وهو شرط أساسي لاستمرار عقود الغاز مع تلك الدول.
وبموجب تلك الآلية، سيقوم العملاء بفتح حسابين بنكيين لدى «غازبروم بنك»، أحدهما بالعملة الأجنبية، والآخر بالعملة الروسية، على أن يودع مستوردو الغاز الأوروبيين اليورو في حساب العملة الأجنبية، ثم يقوم «غازبروم بنك» بتحويل تلك العملات إلى الروبل من خلال سوق الصرف، وإرسالها بعد ذلك إلى حساب مستورد الغاز المقوم بالروبل. وتعطي تلك الآلية سلطة تقديرية للسلطات الروسية في تسعير الغاز، علاوة على نقل مخاطر سعر الصرف للعملاء.
ونفذ الرئيس فلاديمير بوتين تهديداته بشأن وقف تدفقات الغاز إلى الدول التي ترفض الامتثال لتلك الآلية، مثل بولندا وبلغاريا وهولندا وفنلندا والدنمارك ولاتفيا، والتي رفضت الدفع بالروبل مقابل الحصول على الغاز، وهذا ما رفع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية، وفاقم أزمة الطاقة التي تعانيها القارة الأوروبية.
وبخلاف العملاء الأوروبيين، اتفقت موسكو أيضاً مع كبار مشتري الغاز الروسي الآخرين مثل الصين وتركيا على تسوية مباشرة لجزء من مدفوعات مستحقات الصادرات بالروبل واليوان الصيني، وبذلك تتحول روسيا تدريجياً نحو تسوية مبادلات الطاقة الخارجية من خلال عملات أخرى بخلاف الدولار واليورو.
عملات جديدة في الاحتياطي النقدي
ولفتت الدراسة إلى مساعي لإدراج عملات جديدة في الاحتياطي النقدي العالمي، حيث حاولت روسيا على مدار السنوات السابقة إدراج عملتها ضمن العملات الرئيسية في الاحتياطيات النقدية العالمية، حيث اقترحت منذ أكثر من عقد تنويع قائمة العملات في سلة حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي وعملات الاحتياطي النقدي العالمي عن طريق إدراج عملات دول البريكس، والروبل تحديداً، ضمنها، بيد أن ذلك المقترح قُوبل بالرفض من قِبل صندوق النقد الدولي بسبب عدم قدرة العملة الروسية على تلبية الطلب الهائل على العملات.