في الحياة لحظات تفقد اللغة فيها قدرتها على صوغ التعابير، ويكون الصمت فيها أبلغ من الكلام..
لحظة انطلاق المسبار في الساعة 1:58 من فجر العشرين من يوليو 2020 كانت مثالاً على ذلك.
كان ذلك في مركز تانيغاشيما الياباني للفضاء، وكان الفريق على أهبة القلق والترقّب الذي حرمه النوم لأيام إلى أن انطلق صاروخ ميتسوبيشي إتش 2 إيه في سماء المحيط. يومئذ تنفسنا الصعداء، وحمدنا الله، فقد نجحت المهمة الأولى. لكن هيهات أن تهدأ النفوس وتستريح، فأمامنا 300 مليون ميل، والدرب زاخر بالمهمات والتحديات.
تكللت المرحلة الأولى بالنجاح، إذ اشتغلت محركات الوقود الصلب، واخترق الصاروخ الغلاف الجوي وتخلّص من غطائه العلوي منتقلاً إلى المرحلة الثانية حيث جرى التخلص من محركات وتشغيل أخرى.
فتنفسنا الصعداء ثانية. لكن القلق ظل مشتعلاً. الاتصال مع المسبار وضبط مساره ومحاذاته مع المريخ بسرعة 11 كيلومتراً في الثانية لم تكن بالمهمات العادية. في كل يوم كان أعضاء الفريق يواصلون تجفيف العرق عن جباههم وهم يواكبون بانهماك رحلة المسبار من خلال غرفة العمليات في مركز محمد بن راشد للفضاء.
وكانوا في مساء كل يوم يتنفسون الصعداء ويحمدون ربهم: ها قد مضى يوم آخر، والأمور على ما يرام.
وهكذا كانت الحال في كل المهمات التالية: تشغيل المسبار، تنشيط الكمبيوتر المركزي، تشغيل أنظمة التحكم الحراري لمنع تجمّد الوقود، فتح الألواح الشمسية، استخدام مستشعرات تحديد الموقع، مناورات تعديل موضع المسبار، إعادة توجيه الألواح نحو الشمس، شحن البطاريات، ومهمات أخرى تفصيلية عديدة خاضها الفريق الإماراتي بكل كفاءة واقتدار. كل ذلك التحفّز والقلق كان ينتهي بابتسامات الامتنان والرضا.
أستعيد تلك المحطات وأنا أراقب ما جرى في الأيام الأخيرة، حيث حامت قلوب الملايين وعقولهم حول مدار الالتقاط، بانتظار وصول المسبار إلى محطته الأخيرة.
كان الأمل كبيراً، لكن الخوف كان يطلّ برأسه من خلال تعابير الوجوه الساهمة، وخفقات القلوب المضطربة، ونظرات العيون القلقة.
وفي اللحظة التي علمنا فيها من مدير المشروع أن المهمة اكتملت بنجاح، وشاهدنا الفرح الغامر على وجوه شيوخنا وأبناء وطننا، تنفسنا الصعداء مجدداً، وحمدنا الله على نعمائه.
نتطلع الآن إلى تلك اللحظات، فنرى شعباً كاملاً على قلب رجل واحد.
نرى وطناً يزهو باللون الأحمر في تناغم مع المهمة، ونشاهد سيمفونية وطنية بديعة واكبتها جهود إعلامية متميزة بقيادة مكتب الاتصال لحكومة الإمارات.
نتأمل روعة اللحظة، فنزداد إصراراً على أن يكون لمهماتنا المقبلة، على اختلافها، عنوان واحد هو: المزيد من النجاح، والفرح الغامر على وجوه قادتنا وأبناء شعبنا وأمتنا.