(مها ياسر - غيث حلواني)
(جرّبها مرة)، هذا ما حدّثت نفس المدمن به في أول مرة بدأ بها مشواره في هدم حياته .. النشوة التي يشعر بها في لحظتها لا يُساوي شيئاً أمام عتمة حياته المُقبلة عليه منذ هذه اللحظة.
غريب أمر الإنسان عندما يختار أن يقتل نفسه بيديه وجودياً، دينياً، نفسياً وشعورياً يتعاطى ما يُغيّبه عن العالم وعن نفسه وعن أمور كثيرة تستحق منه العيش لأجلها، عن أحلام أم لطالما تمنّت أن تراه في أفضل حال وبأعلى المراتب، وعن صوت طفلته التي ترى فيه الأمان وتتمنى أن تعيشه معه، وعن والده الذي وسم على ملامحه عاراً لم يشهدهِ من قبل عن ابتسامة زوجته في ليلة زفافهما التي انطفأت هنا وعن إخوته الذين يتحملون نظرة المجتمع لهم عن شهاداتٍ جامعية حصدها في شبابه، وفي صغره يرتسم على صفحتها الأولى اسمه بخطٍ كوفي أنيق، عن صوت العائلة ونداء الأصحاب، عن المجتمع الذي يرفض قبوله والجيران الذين يشير بنانهم على المنزل الذي احتضن مدمن، عن أثاث منزله والزجاج الذي تم تكسيره في حالةِ غضبه وعن أموالٍ أُسرفت في سبيل انتكاسته، عن شعور السكينة في أول سجدة، عن نظرة إمام المسجد والتفاتة رأسه ليطلب من المصلين الأربعة أن يستقيموا في نصف صف، عن دعواتٍ جالت بين قلبه وبينه قديماً، اعتذر فيها عما ارتكبه وعن كل تقصيرٍ وتهاون في حق نفسه وفي حق الآخر والآخرة.
عن مشهدٍ تبدل أمام عينيه من ممتاز إلى جيد جداً إلى جيّد إلى مقبول إلى ضعيف، إلى بعيد عن الله وهلاكه دون القرب منه، التفت يبحث عن أصدقاء سوءه فلم يجد واحداً، الجميع هرب بعد أن كانوا أول المشجعين في هذه التجربة ، ليس كل ما في الحياة بالفعل يستحق التجربة، لأن التجربة تسحب معها تجربةً أُخرى فيلازمك تكرارها فتبدأ بالتعلق بها ، فتنتشي بوجودها وتتعب دونها، فتُدمن، فتهلك.
الإدمان على المخدرات آفة مجتمعية حقيقية، يعيشها من نجهل طريقة عيشهم بما أخطأوا في ارتكابه ، يعيشها شخص قد كان يقوم الليل ، وأب عاشَ الكثير من الأوقات مع عائلته ، وشاب دمرته صحبته السيئة ، وإهمال والدته ، تتعدد الظروف وتتنوع بين أشخاص أُجبروا وبين أشخاص جرّبوا وبين آخرين ظنوا أنها لمرةٍ واحدة ولم تكن المرّة الوحيدة.
الإدمان لا يدمر الفرد فحسب، بل يمتد تأثيره إلى العائلة والمجتمع، محطماً أحلام الأمهات وآمال الأطفال، ومبددًا إنجازات الشباب وطموحاتهم.
وكم كانت محاولات المدمن تبوء بالفشل بعد أن نهشت جسده الرغبة الجامحة في التعاطي وكم كانت رحلاتُ الإيابِ تزيد في محطاتٍ كانت قريبةً إلى العلاج .
علاج حدث بالفعل وزيّن في ملامحه فرحة الإنجاز والتخطي فعاد يحبو إلى منطلق رحلة إدمانه ومن صفر الشتات ، الكثير حاول ولكن من الذي صمد في وصوله ؟ وأكمل ؟ وعاد لحياته بل وأسهم في علاج آخرين خاضوا تجربةً مشابهة أو كانت أكثر سوءاً ؟
جهود الدولة
في مواجهة هذه الآفة، تبذل دولة الإمارات العربية المتحدة جهودًا عظيمة ومتكاملة لمكافحة المخدرات والحد من انتشارها ، ولأن تعمير هذهِ الأرض جاء لبناء الإنسان والحضارة ومن منطلق أن الإنسان هو حجر أساس التنمية لهذه البلاد فها هو اليوم في الإمارات يعمّر ويبني وتعمل الدولة على إصلاح كل ظاهرة قد تُدمر حياة من يعيش على أرضها مواطناً كان أم مقيم أو حتى زائر.
وكانت كلمات الراحل الكبير مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان طيّب اللهُ ثراه تتردد في صدى فكرنا دوماً، راسمةً اهتمامه الرئيسي بالثروة البشرية. والتي على ظلها قال : «بناء الإنسان في المرحلة المقبلة، ضرورة وطنية وقومية تسبق بناء المصانع والمنشآت؛ لأنه بدون الإنسان الصالح لا يمكن تحقيق الازدهار والخير لهذا الشعب».
«الإنسان الصالح» كلمة اختصرت معنى أن تكون الإنسان الذي يُعمّر في أرضه لا يهدمها ، كلمة لوّنت قوانين الحق والدستور التي ذُكر فيها.
بالتحديد في المادة 40
قانون اتحادي 14 لسنة 1995 بشأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية.
"يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على سنتين كل من تعاطى بأي وجه أو حاز بقصد التعاطي، أو استعمل شخصياً في غير الأحوال المرخص بها أية مادة من المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية المنصوص عليها في الجداول أرقام (3) و(6) و(7) و(8) المرفقة بهذا القانون.
ويجوز للمحكمة إضافة إلى العقوبة السابقة الحكم بالغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف درهم ".
ليست مادةً واحدة فحسب بل هي مواد بيّنت حزم القانون والدستور الإماراتي تجاه كل من تسوّل له نفسه العبث باستقرار حياته وحياة الآخرين من خلال إدمان المخدرات ، منظومات ومؤسسات كاملة متكاملة لم تعمل فقط على خدمة وعلاج مرضى الإدمان بل هي مؤسسات ووزارات تعمل على مدار الساعة في سبيل حماية كل من يعيش على أرض الإمارات من هذه الآفة التي تهدد مجتمعات كثيرة وتهدم منازل وأفراد كانوا يعتقدون أنها السبيل الوحيد للخلاص ..
تتبنى الدولة استراتيجية شاملة تشمل تحديث القوانين والتشريعات، وتعزيز التعاون الدولي، وتطوير البرامج التوعوية والعلاجية. على الصعيد الأمني، تمكنت الجهات المختصة من إحباط العديد من محاولات تهريب وترويج المخدرات، بفضل استخدام أحدث التقنيات ومواكبة المستجدات العصرية.
وفي إطار تعزيز الجهود الوطنية، تم تشكيل مجلس مكافحة المخدرات برئاسة الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، بهدف تنسيق وتكثيف الجهود بين مختلف الجهات المعنية لمكافحة هذه الآفة.
ولم تكتفي الجهود الحثيثة على علاج الآفة ودحضها بل عملت بالخطوات المتسارعة في بناء نهضة شاملة ووقاية الأفراد من هذه الآفة من خلال العديد من المبادرات التوعوية، مثل حملة «شاركنا لنمنعها»، التي تهدف إلى رفع مستوى الوعي بمخاطر المخدرات وتشجيع المجتمع على المشاركة الفعّالة في الوقاية منها.
بالإضافة إلى ذلك، يلعب المركز الوطني للتأهيل دورًا محوريًا في تقديم خدمات علاجية وتأهيلية لمرضى الإدمان، مع التركيز على السرية والخصوصية، مما يشجع الأفراد على طلب المساعدة دون تردد.
ولأن الإدمان قنبلة موقوته تدمر كل أسرةٍ وتهدم كل مجتمعٍ أُسري ، فهاهي هيئة الرعاية الأسرية في دولة الإمارات تقفُ كدرعٍ حصين يحمي كيان الأسرة ويُمدد من سلامتها في ظل مختلف البرامج والخدمات التي تعمل لتبني مجتمعاً متكاملاً قويماً يزيد لدولة الإمارات حياة كريمة في كنفٍ أُسرٍ مستقرة آمنة .
تعتبر هيئة الرعاية الأسرية إحدى الجهات التابعة لدائرة تنمية المجتمع والتي تأسست في عام 2021، وتهدف إلى المساهمة في حوكمة وتنظيم القطاع الاجتماعي في إمارة أبوظبي، ومساعدة المجتمع على تكوين أسر مستقلة ومستقرة، من خلال توفير خدمات متكاملة للأسر وأفرادها وإدارة حالاتهم بالتعاون مع شركائها الاستراتيجيين، وقد كلفت حكومة أبوظبي الهيئة مسؤولية تقديم الدعم للأسر من خلال منظومة شاملة تتبع نهجاً استباقياً في تلبية احتياجات الأسر في إمارة أبوظبي.
ومنذ تأسيسها، ركزت الهيئة على تقديم خدمات شاملة تلبي احتياجات مختلف شرائح المجتمع، مما يعزز من تماسكه واستدامة تطوره، حيث تتعاون هيئة الرعاية الأسرية مع الشركاء الاستراتيجيين في تقديم خدمات متكاملة، مثل خدمات الاستشارات النفسية والاجتماعية، وخدمات الإيواء الآمن، وخدمة الدمج والتمكين، وخدمة الاحتضان العائلي، وخدمة التوعية والبرامج المجتمعية.
تضمن الهيئة سرية وخصوصية المستفيدين من الأفراد، وتتيح الهيئة من خلال نظام إدارة الملفات الأسرية إلى تقديم خدمات متطورة، تضمن تلبية احتياجات الأفراد وعائلاتهم وتوفير بيئة رعاية داعمة لهم.
هذه الجهود البنّاءة والمتواصلة لم تأخذ بيد المريض في مرحلة علاجه وتعافيه فحسب، بل هي تأخذ بيده حتى يصل إلى آخر مراحل التعافي من خلال دمجه بين أقرانه وإعادته إلى منزلهِ وحضن والدته ومجتمعه والانخراط في بيئة العمل والعيش في كنف الراحة والطمأنينة والأمان النفسي والصحة العقلية والجسدية.
ومن هنا نُوقن أن العلاج ليس آخر خطوات رحلة المتعافين من مرض الإدمان بل هي منتصف طريق حياتهم التي تُستعاد وتُكتَسب من جديد هي الخطوة التي تُمهّد لهم العودة لمجتمعهم والحياة ...
المبادرات التوعوية
كما أطلقت الدولة العديد من المبادرات التوعوية، مثل حملة "شاركنا لنمنعها"، التي تهدف إلى رفع مستوى الوعي بمخاطر المخدرات وتشجيع المجتمع على المشاركة الفعّالة في الوقاية منها.
بيوت منتصف الطريق
مشروع مصمم وفق أعلى المعايير والممارسات العالمية لإعادة تأهيل مرضى إدمان المواد المخدرة والمؤثرات العقلية، يوفر خدماتٍ متكاملة تأهيلية واجتماعية وبرامج متميزة تتجاوز 35 برنامجاً تخصصياً لإعادة تأهيل المرضى». يعكس هذا المشروع الرؤية الاستراتيجية للقيادة الرشيدة، ويكون نقطة انطلاقٍ لتعزيز مرحلة التعافي التام وتطوير المهارات الشخصية والحياتية، نحو حياةٍ مستقبلية ناجحة وإيجابية.
تستقبل منشآت «بيوت منتصف الطريق» الإناث والذكور من عمر 18 إلى 65 عاماً، وذلك بعد انتهائهم من مرحلة سحب السمية في مراكز الرعاية الأولوية، حيث يعمل مشروع «بيوت منتصف الطريق» على مساعدة الأفراد في رحلتهم للتخلُّص من مرض الإدمان، وتوفير سُبُل الكشف المبكِّر، وتعزيز آليات العلاج النفسي والاجتماعي والتأهيلي للمتعافين، وإدماجهم في المجتمع، وفق أفضل الممارسات الدولية والعلاجات وأساليب الدمج، ما يعزِّز الجهود المبذولة بهدف دعم رحلة التعافي من مرض الإدمان.
المشروع أنشأته وتديره هيئة الرعاية الأسرية بدعم مالي من هيئة المساهمات المجتمعية - معاً، التي أسهمت بمبلغ 20 مليون درهم لدعم المشروع، من المساهمات المجتمعية للشركات والأفراد.
فما معنى «بيوت منتصف الطريق» وما الذي يعيشه المتعافي في رحلتهم هناك ؟
مشوار يبدأ بالعزيمة والإصرار لكسب ثقة الجميع. 180 يوماً يقضيها المتعافي من الإدمان خلال رحلة دمجه في المجتمع، حتى يعود إلى حياة طبيعية وسط أهله وأصدقائه.. فكيف يعيش المتعافي من الإدمان أيامه قبل عودته لمجتمعه والحياة؟
— علوم الدار - مركز الاتحاد للأخبار (@oloumaldar) December 23, 2024
"بيوت منتصف الطريق".. من الإدمان إلى المجتمع… pic.twitter.com/INIpb7v8i0