طه حسيب (أبوظبي)
تحت عنوان «خطوات عملية لمواجهة الأزمات الاقتصادية»، انطلقت سجالات الجلسة الثالثة من منتدى الاتحاد السابع عشر التي أدارتها الكاتبة والإعلامية البحرينية عهدية أحمد السيد. وعن «أزمة شح أشباه الموّصِلات»، قدم الدكتور جمال الصوالحي، أستاذ الهندسة الكهربائية بجامعة خليفة، المداخلة الأولى في الجلسة، مشيراً إلى أن المعادن ثلاثة أنواع بناء على قدرتها على نقل الكهرباء: ناقلة للكهرباء، عازلة للكهرباء، وفئة تقع بين هاتين الفئتين تعرف بأشباه الموصّلات. ويرى الصوالحي أن أشباه الموصّلات تعمل مثل إشارات مرور من خلالها يتم التحكم بتدفق الكهرباء في نظام كهربائي معين. من أشهر معادن أشباه الموصلات معدن السيليكون الذي من خلاله يتم إنتاج رقائق إلكترونية مختلفة تستخدم في شتى المجالات كالعسكرية، الفضاء، الطب، الاتصالات، وانتهاء بالمواصلات والسيارات.
وأشار الصوالحي إلى أن الفترة الممتدة من منتصف القرن الـ20 إلى أواخر الثمانينات، تعد الفترة الذهبية لأبحاث أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، جرى خلالها تطوير العديد من الرقائق ذات الكفاءة العالية. ويرى الصوالحي: «كانت هذه الأبحاث وما زالت حتى يومنا هذا تهدف للوصول إلى غاية رئيسية وهي: رقائق أصغر بكفاءة أكبر، وذلك ضمن خط بحثي مبكر منذ منتصف الستينات، إذ لاحظ (جوردن مور) أحد مؤسسي شركة (Intel) العملاقة أن عدد أشباه الموصلات الذي يمكن جمعه على رقيقة إلكترونية يتضاعف كل 18 شهراً، وهي النظرية التي سميت لاحقاً على اسمه وما زالت قائمة إلى يومنا هذا».
تميز آسيوي
وأشار الصوالحي إلى أهم الشركات المتخصصة في إنتاج أشباه الموّصلات Taiwan Semiconductor Manufacturing Company (TSMC)، وهي شركة تايوانية، تعد الأكبر من نوعها في العالم.
وقال الصوالحي: «خلال العامين الماضيين، فرضت جائحة كورونا إغلاقاً على دول بأسرها، ما أثر بشكل كبير على إنتاج المصانع الموجودة في دول شرق آسيا، رغم ازدياد الطلب والحاجة للرقائق الإلكترونية المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية، والتي مكنت ما يعرف بالعمل عن بُعد. وأدت الجائحة أيضاً إلى ازدياد الطلب على المركبات ومن ثم أنواع مختصة من الرقائق الإلكترونية، ونتج عن هذا الطلب الهائل والنقص في الإمدادات من الرقائق الإلكترونية أزمة عالمية أثرت على أكثر من قطاع، من أهمها قطاع المواصلات والمركبات.
وأدركت العديد من الدول نتيجة هذه الأزمة أهمية ضمان سلسة التوريد المتعلقة بأشباه الموصلات. 80% من القدرة الإنتاجية لأشباه الموصلات، موجودة فقط في تايوان وكوريا الجنوبية واليابان والصين، ما يمثل تهديداً اقتصادياً لجميع دول العالم، إذا ما حل أي ظرف طارئ في هذه الدول، وبالأخص جزيرة تايوان».
اقرأ أيضاً:
«منتدى الاتحاد الـ17» يحلل أفق اقتصاد المعرفة في الإمارات
الجلسة الأولى في «منتدى الاتحاد الـ17»: الذكاء الاصطناعي.. نفط القرن الـ21
الجلسة الثانية في «منتدى الاتحاد الـ17»: اقتصاد المعرفة وتنويع الفرص الاستثمارية
مواجهة التحدي
ويرى الصوالحي أن أحد الأمثلة على تحرك الدول عالمياً لمواجهة هذا التحدي، توقيع الرئيس الأميركي جو بايدن في شهر أغسطس الماضي مرسوماً رئاسياً يدعم إنتاج هذه الرقائق داخلياً في الولايات المتحدة عن طريق تقديم دعم اقتصادي وحوافز تقدر بـ 52 مليار دولار أميركي، بالإضافة إلى عمل الحكومات، فقد بدأت العديد من الشركات الكبيرة إعادة النظر في النظام الاقتصادي المبني على فصل المهام، واستحدثت مصانع لصنع أشباه الموصلات بعدما كان تركيزها منصباً على تصميمها فقط. ومن أبرز هذه الشركات شركة Intel التي أعلنت عام 2021 ضخ 20 مليار دولار لبناء مصانع لإنتاج الرقائق الإلكترونية.
أما على الصعيد المحلي، يقول الصوالحي، إن القيادة الإماراتية وعت أهمية هذا المجال قبل جائحة كورونا بسنوات كثيرة، ففي عام 2012 تم الإعلان عن استثمارات في واحد من أكبر مصانع أشباه الموصلات في العالم، ما يضع الدولة في موقع مهم على خريطة سلاسل التوريد.
ولدى الصوالحي قناعة بأن أشباه الموصلات قفزت بالبشرية لمستويات عالية من النهضة التكنولوجية والاجتماعية في فترة ضئيلة نسبياً. والآن أصبحت هذه الرقائق الصغيرة جداً تتحكم باقتصادات الدول عالمياً، فمن دونها لا توجد مركبات، مواصلات، ولا حتى مستشفيات، لهذا من المهم جداً ضمان إنتاج وتوزيع هذه الرقائق عالمياً.
سياسات الابتكار
وتحت عنوان «الابتكار في التصنيع المحلي طوق نجاة من اضطرابات سلاسل التوريد»، قدمت الدكتورة موزة الشميلي، الأستاذ المساعد بكليات التقنية العليا، مداخلة استنتجت خلالها أن العالم مر بظروف غير مستقرة في العديد من المجالات بسبب جائحة كورونا وتداعياتها، والآن بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ما أثر سلباً على العديد من الصناعات والمجالات كسلاسل التوريد، حيث إن تكلفة الشحن ووقته قد تغيرا خلال الأزمة، فارتفعت التكلفة وزاد وقت الحصول على السلع المستوردة مقارنة بفترات سابقة.
وأكدت الشميلي أن دولة الإمارات سبقت غيرها الدول في وضع استراتيجيات واضحة للمحافظة على استقرار وأمن سلامة واقتصاد البلاد. فضخت العديد من المساهمات والحوافز الاقتصادية بهدف تعزيز السيولة المالية، وللتخفيف من حدة الوضع الاقتصادي الذي يشهده العالم. فبالرغم من الأزمة، لم تتوقف الإمارات الحبيبة من استضافة أكبر حدث اقتصادي عالمي «إكسبو 2020 دبي» بل أذهلت العالم بطريقة تعاملها مع الأزمة.
واجتياز دولة الإمارات لمثل هذه التداعيات العالمية، جاء بسبب خطط مسبقة وضعتها الدولة بخطوط عريضة وخطى ثابتة نحو استراتيجيات عمل قوية، ومن أهمها الابتكار التكنولوجي والإمكانات الرقمية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي دعماً لمؤسسات الدولة في الصحة والتربية والاقتصاد.
الثورة الصناعية الرابعة
أكدت الشميلي أن استراتيجية الثورة الصناعية الرابعة لدولة الإمارات تهدف إلى تعزيز مكانة الإمارات مركزاً عالمياً للابتكار وتقنيات المستقبل، والتي عملت على جعلت دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً عالمياً في تبني التقنيات المتطورة لخدمة المجتمع وتحقيق السعادة والاستدامة. وترى الشميلي أن الإمارات نجحت في مواكبة المستجدات التقنية مثل الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء والجيل الخامس، وقامت باستحداثها لتكون الجهاز العصبي لحضارة المستقبل.
رقمنة الخدمات
أشارت الشميلي إلى أنه بمساعدة تقنيات التعلم الآلي، أصبحت نسبة متزايدة من الخدمات الروتينية رقمية. ويتواصل العملاء في الإمارات العربية المتحدة مباشرة مع هواتفهم المحمولة لإجراء عمليات الشراء ودفع الفواتير وتحويل الأموال، ويستخدم الطلاب منصات التعلم الذكي لسد الفجوات المعرفية في المدارس الإماراتية.
هذه التغييرات كان لها تأثير كبير على هيكل الاقتصاد الإماراتي، من خلال تعزيز دور التقنيات الرقمية مثل الحوسبة السحابية والأجهزة المحمولة والتعلم الآلي، ما دفع باتجاه الاقتصاد الرقمي واستحداث جيل جديد من الخدمات. وأضافت الشميلي أن أنظمة إنترنت الأشياء (IoT) الضخمة، وتحليلات البيانات، وسلسلة الكتل، ومشاريع هايبرلوب، والطباعة ثلاثية الأبعاد المبتكرة، والمركبات ذاتية القيادة والطائرات من دون طيار، والروبوتات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، جزء من ابتكارات ساهمت في ارتقاء الدولة ودعم اقتصادها وتقويته، ما كان له الأثر في قدرة الدولة على تخطي الأزمات الاقتصادية العالمية.
واستنتجت الشميلي أنه من الركائز الأساسية لاستراتيجية الثورة الصناعية الرابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة التركيز على الأمن الغذائي والمائي - تطوير نظام بيئي مستدام للغذاء والماء من خلال الاستفادة من الهندسة الحيوية والعلوم المتقدمة والتقنيات والطاقة المتجددة.
دول الخليج قادرة على تدشين سلاسل توريد مأمونة
وخصصت الجلسة الثالثة مداخلة للكاتب السعودي عبدالله ناصر العتيبي بعنوان «التعاون الإقليمي في الصناعة والأمن الغذائي لمواجهة حالات الطوارئ»، وطرح خلالها العتيبي تساؤلاً مؤداه: كيف يمكن لدول الخليج مواجهة الحالات الطارئة التي ربما تحدث في العقود القليلة المقبلة؟
ويطرح العتيبي حلولاً من أهمها: تعزيز الصناعة التشاركية في دول الخليج العربية، حيث لا يمكن صناعة كل شيء في دولة واحدة، لأن المشاريع الصناعية الكبرى تحتاج إلى بنى تحتية ضخمة، فيما العائد على الاستثمار سيكون محدوداً نظراً لمحدودية سكان كل دولة على حدة.
ويقدم العتيبي مثالاً في قطاع صناعة السيارات، حيث يمكن لكل دولة من دول الخليج المساهمة في جانب صناعي معين والتسويق له في دول الخليج الأخرى بحمائية تجارية مشددة وقوانين محفزة.
الاتجاه إلى الهند
ويدعو العتيبي أيضاً إلى التوجه نحو الهند ودول آسيا من أجل مزاوجة الإمكانات المالية في الخليج بالخبرات والإمكانات الآسيوية القابلة للانتقال بسهولة إلى منطقة الخليج (يملك الهنود نسبة كبيرة جداً من شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون في كاليفورنيا، فما المانع من استثمار هذه الخبرات بما يتفق مع الخطط المستقبلية في هذا المجال؟).
وأضاف العتيبي: دول الخليج تملك حدوداً مشتركة، ومؤمنة، وهذا يخلق سلاسل إمداد مأمونة ومحمية في الوقت نفسه. ويقترح العتيبي تعزيز الأمن الغذائي التشاركي من خلال تسريع الإجراءات لإنشاء هيئة أمن غذائي ضمن أجهزة مجلس التعاون الخليجي، تتولى التنسيق ما بين الجهات ذات العلاقة في الدول الست للوصول إلى مرحلة مطمئنة من التوقعات المستقبلية للأمن الغذائي. الإمارات كان لها السبق من بين دول الخليج في تدشين أول حقيبة وزارية للأمن الغذائي في العالم. ويرى العتيبي أن على بقية الدول الإسراع في جعل الأمن الغذائي على رأس الأولويات الحكومية.
تكامل الاستثمارات
ويأمل العتيبي في توزيع سلة الإنتاج على الدول الست، بحيث تتكامل الاستثمارات الغذائية مع بعضها مكونة نتيجة نهائية من الأمن الغذائي، بمعنى العمل على تعظيم دور الصناعات الذكية في مجالات الإنتاج الزراعي والحيواني للتغلب على مشكلة ندرة المياه وقلة المراعي. واستنتج العتيبي أن دول الخليج ليست غنية بالمياه.. لا أنهار جارية.. ولا أمطار مستمرة. وبالتالي فصناعة الغذاء لابد أن تقوم على حلول ذكية تتناسب مع طبيعة الأرض والمناخ في دول الخليج.
ويقترح العتيبي التركيز على بناء قواعد صلبة لإنتاج السلع الغذائية الأساسية والعمل على ضمان استمرارها في حال توقفت سلاسل الإمداد العالمية لأي سبب من الأسباب، وضمان وجود احتياطات غذائية للسلع التي لا يمكن إنتاجها محلياً في دول المجلس، بحيث تتولى كل دولة تخزين سلة غذائية تتناسب مع قدراتها وظروفها. وحسب العتيبي، فإن السعودية مثلاً تتولى مهمة ضمان وجود مخزون للقمح لدول الخليج كافة لمدة سنتين (طبعاً تكلفة المشروع تكون مقسمة على دول المجلس بما يتناسب مع حصة كل دولة من الاستهلاك).
خلاصات واستنتاجات
وخلصت فعاليات المنتدى السابع عشر إلى استنتاجات أهمها أن اقتصاد المعرفة يتطلب اهتماماً كبيراً بالتعليم، وأن الإمارات طوَّرت اقتصادها في مجالات واعدة مثل الفضاء والذكاء الاصطناعي، ودشّنت مؤسسات وكوادر قادرة على استيعاب كل ما هو جديد في عالم التقنية.
وأكدت السجالات أن انفتاح الإمارات وتنوع مجتمعها يشجعان على نمو الاقتصاد المعرفي القائم على الاستثمار في الابتكارات، وأن منطق اللا مستحيل الذي تنتهجه الإمارات في مبادرتها يجعلها مؤهلة لاحتضان أحدث الابتكارات العالمية، وأن الأزمات العالمية الأخيرة، وباء «كورونا» والتضخم، تدفع باتجاه التصنيع المحلي وتوطين التكنولوجيا وتدشين قواعد صناعية محلية، وأنه من المهم التركيز على توظيف الابتكارات في خدمة الأمن الغذائي والزراعة والرعاية الصحية، والتعاون الإقليمي والشراكات الاستراتيجية لتعزيز الاقتصاد الوطني وتحفيزه على التطوير والتكامل مع القوى الاقتصادية الأخرى، كما توصلت الجلسات إلى قناعة بأن اقتصاد المعرفة يسعى أولاً وأخيراً لتحسين جودة الحياة وتوفير الرفاهية للإنسان وتطوير مجتمعات تستثمر التكنولوجيا في الإنتاج والخدمات.