نسرين درزي (أبوظبي)
تجمع دولة الإمارات والجمهورية الفرنسية روابط ثقافية وثيقة شهدت على مدى سنوات طويلة محطات راسخة وأثمرت إبداعات معرفية تُعتبر مصدر فخر للأجيال، إذ كرّست القيم المشتركة بين الدولتين، وأثرت مفهوم الحفاظ على التراث الإنساني ومجد الحضارات، على مستوى المتاحف والمسارح والمحافل التاريخية العريقة. وجاءت الاتفاقيات المتبادلة بين الحكومتين لإحياء الإرث الثقافي، والإبقاء عليه متوارثاً كمنارة تضيء على عصور خلت، بما يتخطى الأزمنة والمسافات، ما يعكس حرص دولة الإمارات على صون المواقع التراثية والثقافية حول العالم. ولعل «مسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان» في باريس و«اللوفر أبوظبي»، خير نموذجين على التعاون الثقافي المثمر بين الدولتين.
اتفاقية 2007
تتواصل المبادرات الثقافية الوطيدة بين الإمارات وفرنسا بصفحات دامغة في خدمة الموروث البشري المادي والمعنوي. ويعود أبرزها إلى اتفاقية التعاون الثقافي بين إمارة أبوظبي والحكومة الفرنسية، والتي تم توقيعها عام 2007 وتضمَّنت إنشاء متحف اللوفر - أبوظبي، ومبادرات دولية منها انعقاد المؤتمر الدولي للحفاظ على التراث الثقافي المهدَّد بالخطر عام 2016 في أبوظبي، وتأسيس التحالف الدولي لحماية التراث الثقافي في مناطق النزاع «ألف».
مسرح إمبراطوري
وفي إطار الاتفاقية الثقافية، وبمبادرة مضيئة من دولة الإمارات، أُعيد افتتاح مسرح قصر فونتينبلو الإمبراطوري في العاصمة الفرنسية باريس في يونيو 2019، وحضر مراسم الافتتاح الرسمي سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي. وفتح المسرح أبوابه للجمهور مجدداً بعد انتهاء أعمال الترميم والتجديد الشاملة التي استمرت لـ 12 عاماً بتمويل من دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي. وأطلقت الحكومة الفرنسية اسم الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان «طيب الله ثراه» على المسرح الذي كان يُعرف باسم «مسرح نابليون الثالث»، تقديراً وعرفاناً لمساهمة دولة الإمارات في إعادة إحياء هذا الصرح العريق والمهم من تاريخ فرنسا.
أعمال التجديد
انطلقت أعمال تجديد المسرح في أبريل 2007، واكتملت المرحلة الأولى من الترميم في أبريل 2014، وشهدت تجديد قاعة المسرح الرئيسة بمشاركة 25 خبيراً و135 حرفياً عملوا على استعادة تصاميمه الداخلية وديكوراته الأصلية. وبدأت المرحلة الثانية في يونيو 2017، وشملت تثبيت الآلات والأنظمة التشغيلية وصيانة الأرضيات وتجديد زخارف المقصورات العلوية وخشبة المسرح، التي شهدت أهم الأعمال المسرحية وعروض الأداء الفرنسية.
150 عاماً
تشهد العلاقات بين الإمارات وفرنسا تطوراً مهماً في مختلف المجالات، بما فيها المجال الثقافي. وكان لافتتاح «اللوفر أبوظبي»، ومعرض «نشأة متحف لمقتنيات لوفر أبوظبي» في «اللوفر باريس»، وبعدهما افتتاح «مسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان»، أكبر دليل على إصرار الدولتين على تقوية العلاقات الثقافية بينهما. ولاسيما أن «مسرح نابليون الثالث»، بحسب تسميته القديمة، مثقل بعبق التاريخ، ولا مثيل له في كل القصور التاريخية الفرنسية.
ومع افتتاح هذا المعلم التاريخي الذي بات يحمل اسم «مسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان»، بعد إعادة إحيائه بمبادرة إماراتية وإخراجه إلى النور بعد 150 عاماً على إغلاقه، يشهد اليوم حركة سياحية ناشطة. وأصبح بإمكان زوار «فونتينبلو» الإمبراطوري من كل أنحاء العالم زيارة أهم معالم القصر، المتمثِّلة في «مسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان» الذي كان يحمل اسم مسرح نابليون الثالث، ويرمز إلى حقبة مهمة يُبنى عليها تاريخ فرنسا، وهي الحقبة الملكية.
قصة البدايات
«مسرح نابليون الثالث» الذي طواه النسيان قبل أن تُعاد الروح إليه ويحمل اليوم اسم «مسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان»، كان في حال جيدة عندما أُعيد اكتشافه. ويعود ذلك بصورة رئيسة إلى أنه استُخدم في مناسبات قليلة لم تتعد الـ 10 مرات، بعيد إنشائه بين عامي 1857 و1868 في عروض حضرها نحو 400 شخص من حاشية القصر. وكان شاهداً على ذلك ما يزيِّنه من منسوجات حريرية مبطَّنة وسجادات ملوَّنة وزخارف مطلية ومصنوعة من الحجر المذهَّب، وثريّات وستائر وسلالم وردهات، توحي انطباعاً للزائر بأنه في زمن آخر يزخر بالترف والفخامة.
والمسرح شُيِّد نزولاً عند رغبة الإمبراطورة أوجيني، بسرعة كبيرة نتيجة الأعمال على مدار الساعة، وتولّى هندسة المشروع آنذاك إيكتور لوفيول. وبعد الإطاحة بالإمبراطورية، دخل المسرح طي النسيان، وبقيت أبوابه مغلقة على مدى عقود طويلة.
ويؤدي المسرح الإمبراطوري في «فونتينبلو» بالدرجة الأولى دور المتحف، بالرغم من أنه يستضيف بصورة استثنائية عروضاً وحفلات غنائية وسط تدابير مشدَّدة للحفاظ على السلامة العامة، ولاسيما من خطر الحرائق.
400 مقعد
في المسرح الإمبراطوري لنابليون الثالث، المعروف اليوم باسم «مسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان»، يتضح البروتوكول جلياً في توزيع جمهور العروض المسرحية ضمن الصالة، وفقاً لطبقاته الاجتماعية التي لم يكن ممكناً التهاون بها. وهو عبارة عن صالة بيضاوية الشكل تنقسم إلى الخشبة المزوَّدة بالستائر الخشبية ذات المناظر الطبيعية المبهرة، وقاعة المشاهدة التي تضم 400 مقعد، منها 100 مقعد للاستخدامات الخاصة. ويتألف المسرح من 3 مستويات تضمن الفرجة، وفقاً للتراتبية الطبقية للمجتمع الفرنسي. وقد جهِّز بمجموعة ممرات وسلالم، بالإضافة إلى الكواليس ومرافق الميكانيكيين والموسيقيين.
«فونتينبلو».. أكبر القصور
وسط غابات مدينة فونتينبلو الكثيفة، وعلى بعد 55 كيلومتراً من جنوب شرقي باريس، يقع قصر فونتينبلو، أحد أهم وأضخم القصور الملكية الفرنسية، وقد شيِّد على هيكل بناء من القرن السادس عشر. وهو شاهد حضاري، بتصاميمه المذهلة وديكوراته الفخمة، على الطراز المعماري الأوروبي السائد في العصور الوسطى وعصر النهضة، وتحديداً الإيطالية منها.
ويضم القصر مجموعة متفردة من التحف الفنية والأعمال التي تُعتبر علامة في تاريخ الفن الأوروبي، إضافة إلى جداريات أخاذة تزين الجدران، بينها «الفيل الملكي» الذي أبدعه الرسام الإيطالي روسو فيورنتينو، وقام بتقليد أسلوب مايكل أنجلو وزيَّن الأسقف والجدران برسومات تعبِّر عن الأساطير القديمة. وتُعتبر غرفة ماري أنطوانيت أجمل ما في القصر، وبالرغم من أنها صمِّمت عام 1787 خصيصاً لتناسب مزاجها، لكنها لم تستعملها قط، وكُتب لجوزفين زوجة نابليون أن تكون ملكة هذه الحجرة.
زيارة تاريخية
زار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله»، العاصمة الفرنسية في سبتمبر 2021، وكان في استقباله الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون في قصر فونتينبلو الملكي، الذي تحمل قاعة المسرح الإمبراطوري داخله، اسم الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان «طيب الله ثراه».
34 ملكاً
يتصدّر قصر فونتينبلو الملكي قائمة أكثر الأماكن التاريخية والسياحية البارزة في فرنسا. وتعود شهرة القصر إلى كونه راكم بين جدرانه تاريخاً من القرون المتعاقبة وسكنه جميع ملوك وحكام فرنسا (34 ملكاً وإمبراطوراً)، بدءاً من القرن الثاني عشر حيث أساساته الأولى، وصولاً إلى القرن التاسع عشر حين شهد آخر تعديلاته. لكن القصر لم يبلغ أهميته القصوى إلا في القرن الثامن عشر في عهد نابليون الأول الذي لقّبه بـ«بيت القرون».
1530 قطعة أثرية
قصر فونتينبلو في باريس، كانت أدرجته منظمة اليونسكو على قائمتها لمواقع التراث العالمي، ويحتضن 1530 قطعة أثرية وفنية وأثاثاً نادراً. وقد شهد لحظات تاريخية فارقة أبرزها، وداع نابليون الأول لحرسه وحاشيته قبل ذهابه إلى المنفى، وإدخال تعديلات على مدخله المرصوف بالحصى بحيث يتَّسع لمرور العربة الإمبراطورية. ويضم القصر حالياً الأكاديمية الفنية الأميركية لتعليم الفنون والهندسة المعمارية والموسيقى.
روائع العمارة
يُعتبر «مسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان» - الاسم الجديد لـ«مسرح نابليون الثالث» في باريس، والذي صمَّمه هيكتور ليفيول للعائلة الحاكمة بين عامي 1853 و1856، أحد روائع العمارة في عهد الإمبراطورية الفرنسية الثانية. ولم يستخدمه الإمبراطور نابليون الثالث سوى بضع مرات فقط، ثم أغلق أبوابه لما يزيد على قرن ونصف القرن من الزمن، حيث بقي على حالته الأصلية. ويمثِّل اليوم متحفاً لفنون الأداء والفنون الزخرفية في عصر الإمبراطورية الفرنسية الثانية.