محمد عبدالسميع (الشارقة)
حين تُحاور الشاعر معانيه، وتتجدد في رحاب إبداعه سبائكُ من الذّهب الخالص رفيع المستوى؛ فإننا نتوقّع قصيدةً غايةً في الفخامة والأصالة من صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، إذ إنّ قصيدة «وارث وحارث» الممهورة بتوقيعه في ثمانية عشر بيتاً من الشعر النبطيّ الأصيل، هي بعضٌ من حُبّه ووفائه وإخلاصه الوطنيّ؛ كيف لا وهي الفرحة بذاتها لشاعرٍ يصوغ من فيض وجده ورقيق إحساسه أبياتاً بديعةً، وقد خبر الأيّام والليالي وكلّ الظروف وعرفها معرفةً دقيقةً، فكان فيها دائماً فارس السبق والحكيم، فهو يعلم من يُخاوي، إذ يخاوي صاحب السّمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، هذه الشخصيّة العظيمة التي هي محور القصيدة المُذهّبة بالمعاني واللطائف الإبداعيّة، والتي يسبكها صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد معتزّاً بقصيدته التي يزجيها بكلّ المحبّة إلى سبع الفلا وشيخ البلاد وفتاها صاحب السّمو الشيخ محمد بن زايد، مُستهلاً استهلالاً شعرياً رائعاً يُظهر مقدار القصيدة وشخصيّتها، لتكون هديّة إبداعيّةً وطنيّةً رائعة في أوّل أيّام عيد الفطر السعيد، لتزداد الفرحة فرحات والمحبّة محبّات، وليظلّ الشعر عنواناً ثقافياً رائعاً ينقل إلينا كلّ هذه الأحاسيس والمشاعر والفرح والسرور والهناء.
وقبل أن ندخل إلى مضمون قصيدة «وارث وحارث»، ومن واقع الاستهلال الأدبيّ البليغ الذي يطالعنا به صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد، كلونٍ من ألوان مشاركة الشاعر المحبّ لجمهوره ووطنه، فإنّ قيمتها تنبع من أنّها إنّما تصدر عن وجدٍ صادق، فهي أبياتٌ مشغولة بالصدق والمحبة والشعرية العالية، ولذلك فهي عزيزة تسير إلى عزيز، فلو جُمعت كلُّ بحور الشّعر والأغاني في كفّة، لرجح مقابلها بيتٌ واحدٌ من هذه القصيدة العظيمة وتفوّق عليها، وهذا يضعنا بجوّ النصّ وتحضيرات القصيدة، لنكون مع البيت الذي يليه والذي يصوّر القرب والانسجام الكبير بين صاحب السّمو الشيخ محمد بن زايد، وصاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد، خصوصاً حين يضعنا بصورة صروف الزمان التي قد تعانده فيسارع إلى ردّها «مسبوقة في مداها»، لنسير من هذه التقدمة الشعرية الرائعة إلى شخصيّة القصيدة، كشخصيّة فريدة ليس كمثلها، فهو «سبع الفلا وشيخ البلاد وفتاها»، وهو «بوخالد» الذي تتحقق على يديه الأماني، وهو صاحب الأوصاف الفريدة التي «يدوّي صداها»، بمعنى أنّها أوصافٌ وخصالٌ وصفاتٌ تصل إلى كلّ الدنيا وكلّ الأسماع، مدوّيةً -كدليل على القوة والمهابة والشدّة- فالقائد محطّ الاقتداء وعليه يُعطى الضّمان، بمعنى أنّه كافلٌ للأمور ومحقق ما يعجز عنه الكثيرون.
وتستمرّ هذه الصفات في صورها الشعريّة الرائعة، حيث «بوخالد» هو دليل الدولة والوطن والناس حين يحار الجميع في أمورهم ويطلبون النصح والمشورة، وقد جاء صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد بهذه الصّفة التي تتضح في أحلك الليالي وأشدها حيرة، وهو تشبيهٌ قُصد منه تصوير الحاجة إلى الحكمة في زمنٍ تتضاءل فيه الحلول أو تغيم فيه الرؤى أو يحار فيه الدليل، وواضحٌ تكثيف المعنى في لفظتي الحالك والدجى، وكلاهما تدلان على الليل المظلم، كإشارة بالمقابل إلى الرأي الصائب الذي ينفع الناس.
إنّ قائد الوطن، الذي يعلي من الراية بيمينه ويرفعها عالياً في سماء البلاد، هو «جيدومنا»، بما في هذه اللفظة من اطمئنان واحترام واعتزاز بالشجاعة، وبما في «يمينه» من قوّة ومجد وعزم، فقد تحققت هذه القوّة لأنّ القائد حقق شروط النصر والعزّة مبكّراً، إذ آمن بربّه واستعان به واتكل عليه لما فيه مصلحة البلاد والناس، فكان من الطبيعي ألا تنكسر له راية أو يهبط للبلاد علمٌ في سمائها، وجميلٌ التعبير الشعري «ما تنكسر له راية»، وهو إلى ذلك ما يزال -حفظه الله- يجتهد ولا يدخر جهداً في تحقيق هذا النفع وهذه السّمعة العالية والمجد، وقد كان من الطبيعي أن يجزيه الله بالنصر من عنده ويحقق الأمنيات، لقائدٍ لا يخفى فعله الطيّب ومحامده الجزيلة على الناس والمنتفعين به، فهو قائدٌ عاملٌ لوطنه وللإنسانيّة باستمرار، ولذلك جاء البيت الشعري ليضع لنا إطاراً في هذا المجال، في استخدام فعل الشرط وجوابه أيضاً في هذا البيت الذي يؤكّد لنا فيه صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد أنّ من كان والده الشيخ زايد «طيب الله ثراه»، مؤسس الدولة وبانيها، فلن يعاني أبداً، لأنّ الأصالة يتوارثها الأبناء والحكمة تجري في عروقهم من والدهم المشهود له بطيبه وإخلاصه ومحبّته واعتزازه بالإمارات والعرب والإنسانيّة جمعاء، لهذا تأتي الدنيا بكلّ روعتها وقد تأسس الرضا وأصبحت الأحلام حقيقةً واقعة يفرح بها الناس. «ومن كان زايد والده ما يعاني.. وله تاتي الدنيا على ما يباها»، فكيف للدنيا أن تأتي بأسرها طائعةً؟.. هذا في الواقع جمال الإبداع الشّعري وروعة البناء وحمل مضمون شخصيّة عظيمة بحجم شخصيّة صاحب السّمو الشيخ محمد بن زايد.
كما أنّ كلّ مقدّرات الوطن وشبابه هم جنودٌ أوفياء لقائدهم، كما تتغنى القصيدة، خصوصاً حين يكاشفهم القائد العظيم بوجوب أن نضاعف العمل ونزيد من سرعة البناء ونكمل مشاريع وطنيّة وإنسانيّة مهمّة، فهاهم الشباب، العنصر الأقوى في المجتمع وعدّته للمستقبل، يقبلون بكلّ الرضا والدافعيّة وهم يضاعفون العطاء والبناء فتتحقق النهضة ويزداد الاسم عالياً خفّاقاً في سماء الإمارات والعالم.
هذا القائد، ومن خلال صائب رأيه وموفور حكمته وبعد نظره واتساع آفاقه، بلغت العلاقة بينه وبين شعبه درجةً عاليةً من الانسجام والثقة والإنجاز، لذلك يأتي البيت الشّعري البليغ الذي يحمل هذا المعنى في أنّ الجميع على قلب هدفٍ واحد ورؤية واثقة، كما في الإشارة إلى القوّة في لفظة «عصاه»، والطاعة في «ما نعصاه»، وهما من بديع الشعر الدّال على هذه الصّفة بين الشعب والقائد: «عصاه ما نعصاه طوع البنانِ.. لو بالإشاره فاهمين امعناها»، فقد أصبح الشعب كلّه يعرف ما يعمل له ويسعى لتحقيقه القائد، وذلك هو قمّة التشاركيّة في الرأي والدافعيّة في العمل والسرعة في كلّ مقوّمات النهضة والبناء.
إنّه المنهج الواضح في كلّ ظرفٍ وآن، منهجٌ يسير عليه القائد بكلّ صراحة ومكاشفة مع أبنائه، ليسير دائماً بالسفينة أو مركب الوطن إلى برّ الأمان، فهو العارف بالأخطار والفاهم للتحديات والواثق من الحلول الناجعة التي يقدّمها، وكلّ ذلك يحمله البيت الجميل: «ع المنهج الواضح وفي كل آنِ.. بأمره يجدّيها وبامره جداها»، وكم هو رائعٌ تعبير «بأمره يجديها»، للدلالة على الخبرة والاحتراف في إدارة شؤون البلاد وتجنيب الإنسانيّة كلّ شرٍّ مستطير.
فصاحب السّمو الشيخ محمد بن زايد وارث المجد عن والده الشيخ زايد «طيب الله ثراه» زارع هذا المجد ومؤسسه، فهو يكمل البناء، وهو محقق آمال الناس ومبتغاهم، وهو الفارس الشّهم الذي تنطلق إنجازاته في مدى لا يحدّه حدٌّ في مضمار هذا البناء والعطاء، فاستحقّ بذلك أن تفديه الأرواح التي يسعى دائماً أن يكون فداءً لها، وهو تعبيرٌ إنسانيٌّ جميلٌ وبديع، كنوعٍ من الدعاء ووصف حقيقةٍ واقعةٍ في علوّ شأن هذه المحبّة الكبيرة بين القائد والشعب.
وإذ يختم صاحب السّمو الشيخ محمد بن راشد قصيدته الرائعة «وارث وحارث» ذات الدلالة الوطنيّة التي تتوشّى بالمجد والسؤدد والقوّة والمنعة والمهابة والتضحية والفداء، فإنّ ختام القصيدة هي بيانُ ذلك كلّه، كرسالة موجّهة إلى كاتب التاريخ بأن يعي ما يكتب وأن يسطّرها واضحةً وبيّنةً للجميع، كشهادة حقّ مضيئة «يسفر سناها»، لتُصاغ هذه الرسالة بصيغة الجمع، حيث الكلّ مع القائد، فمعه يكون الأمان والدولة في ظلّه تظلّ محميّةً وقويّةً وقد حققت المكانة العالية، بل المجد كلّه.
«وارث وحـــارث»
قـامَـتْ تـحـاورني جــدادْ الـمـعاني ** سَـبكْ الـذَّهَبْ مـاينوصِلْ مـستواها
منْ فيضْ وجدٍ ساكنٍ في المحاني ** ومــنْ الـبـيوتْ الـلِّـي بـديـعٍ بِـنـاها
لـوُ تـجمَعْ بـحورْ الـشِّعِرْ والأغاني ** فـي بيتْ واحدْ منْ قصيدي كفاها
جَــرَّبـتْ وقــتـي مـاغـتَرني وبـانـي ** لــي فـي الـلِّيالي جَـرْيها لـمِنتهاها
وإذا تـعـاندني صــروفْ الـزِّمـاني ** آردَّهــــا مَـسـبـوقـةٍ فــــي مــداهـا
وخـاويتْ مـنْ مـثلِهْ فـلا آظنِّ كاني ** سـبـعْ الـفَلا وشـيخْ الـبلادْ وفِـتاها
بـوخـالدْ الـلِّـي بــهْ نـنـالْ الأمـاني ** لـهْ الـوصوفْ الـلِّي يـدَوِّي صـداها
بـهْ نـقتدي وعـليهْ نَـعطي ضـماني ** وبِهْ نَهتدي في الحالكَهْ منْ دِجاها
جـيـدومِـنا إنْ كـايـنْ الـكـونِ كــانِ ** رايَـــةْ وِطـنَّـنا فــي يـمـينِهْ حـواهـا
والـلِّي بـرَبَّهْ عَ الـظِّروفْ إستَعاني ** مـاتـنكسِرْ لــهْ رايــةٍ فــي سِـمـاها
ومــنْ يَـجـتهِدْ جــدِّهْ وجـهـدِهْ يـبانِ ** وأهــلْ الـعِـمَلْ اللهْ بـجـودهْ جـزاها
ومــنْ كــانْ زايــدْ والــدهْ مـايعاني ** ولــهْ تـاتِـيْ الـدِّنـيا عـلـىَ مـايـباها
وإنْ قـالْ بـنضاعِفْ عـمَلنا عـياني ** شـبابنا فَ أمـرَهْ تِـضاعِفْ عِطاها
عـصـاهْ مــا نـعصاهْ طـوعْ الـبِنانِ ** لـــوُ بــالإشـارَهْ فـاهـمينْ إمـعَـناها
عَ الـمِـنهَجْ الـواضـح وفــي كـل آنِ ** بــأمـره يـجـديـها وبــأمـره جـداهـا
وارث وحــارث مـجد سـيف وعـنانِ ** تــفــديــه أرواح لأجـــلــه فـــداهــا
يـا كـاتب الـتاريخ خـذ عن لساني ** شــهـادة بـالـحـق يـسـفـر سـنـاها
أنـــا مـــع مـحـمـد نـحـس بـأمـانِ ** والـدوله فـي ظـله ويـحمي حـماها