خلف أحمد الحبتور
ثلاثون عاماً مضت على غياب الأب المؤسّس لإمارة دبي، المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم.
كان لوفاته في 7 أكتوبر 1990 وقع كبير جد في نفسي، ففي ذلك اليوم، انهمرت دموعي للمرة الثانية في حياتي، المرة الأولى كانت عند وفاة والدي الحبيب.
كنت من المحظوظين الذين عرفوا الشيخ راشد عن كثب وكان لهم شرف الانتماء إلى الدائرة المقرَّبة منه، وقد أصبح، منذ أول يوم التقينا فيه، مرشداً وملهماً لي.
كان ذا قدرة هائلة على العمل بكد وجهد، ولم يكن يحب تمضية الوقت مع المتكاسلين أو الأشخاص الذين ينامون حتى ساعة متأخّرة من الصباح، أي إلى ما بعد الساعة الخامسة صباحاً وفقاً له.
نادراً ما التقيتُ شخصاً يتمتع بهذا الحس القوي من الانضباط الذاتي، وقد سعيت جاهداً طوال حياتي للاقتداء به في هذه الميزة. كان مُحباً لعائلته عاش حياته وفقاً لقوانين الله.
ولولا تشجيعه والقدوة التي رسمها لنا التي حرصت دائماً على التمثّل بها، لما كنت على ما أنا عليه اليوم. وأدين له أيضاً بالفضل في إتاحة الفرصة أمامي لبناء فندقي الأول، متروبوليتان، في الشارع الذي كان يُعرَف آنذاك بشارع أبوظبي.
كان يتميّز بحكمته وسخائه وصبره، أحبَّ دبي حين لم تكن تضم سوى طريق واحد، ومستشفى واحدة، وقليل من المدارس، وأشياء أخرى قليلة. كان رجلاً بسيطاً يشعر بأنه في منزله في الصحراء كما في القصور.
والأهم من ذلك كله أنه أحبّ شعبه كثيراً، وغالباً ما كان يتجوّل في الإمارة بعد صلاة الفجر ويلقي التحيّة على كل مَن يلتقيه، وكان يرحّب أيضاً بالمواطنين والمقيمين الأجانب في مجلسه الذي كان ينعقد أربع مرات يومياً، حيث كانوا يعبّرون عن رأيهم بحرّية تامة.
كان رجل الشعب بكل ما للكلمة من معنى، ورسالته أن يكون في خدمة مصالح الناس.
لدى تسلّمه الحكم بعد وفاة والده الشيخ سعيد في عام 1958، عزم على تحقيق رؤيته التي لطالما حلم بها. فقد أراد أن يرى دبي تتوسّع وتتحول إلى مركز تجاري مهم، ولكن الطين والوحل في مياه الجون كانت تحول دون دخول المراكب الكبرى إليه.
استعان الشيخ راشد بالشركة البريطانية «ويليام هالكرو أند بارتنرز» لإجراء دراسة جدوى حول جرف الوحل من مياه الجون، وتبيّن أن ذلك ممكن، لكن التكلفة مرتفعة جداً. فبادر للحصول على القروض التي جرى تسديدها من خلال الرسوم الجمركية والضرائب على التجّار. وهذا كان أول انتصار أساسي حققه الشيخ راشد بعد تسلّمه الحكم، وتوالت الانتصارات المدهشة.
لطالما أُعجبتُ بثقته بنفسه وإيمانه بحكمه على الأمور حتى حين كان الجميع من حوله يعارضون الأفكار الجديدة. كان يعلم ما عليه فعله، ومهما بلغت صعوبة القرارات التي كان عليه اتخاذها، كان يستمع لآراء الجميع دون أن يكترث للرافضين، وقد تبيّن دائماً أنه محقٌّ في حدسه.
هزّ البعض رؤوسهم غير مصدّقين عندما قرّر بناء ميناء راشد العميق الذي دُشِّن في عام 1972، وكان موقفهم سلبياً أيضاً حين افتتح في عام 1979 حوضاً جافاً كبيراً، فضلاً عن بناء أكبر ميناء تجاري في العالم في جبل علي، والذي أدّى إلى ظهور منطقة حرة تُعتبَر اليوم الأكثر حركة في المنطقة. وفي العام نفسه، جرى الكشف عن أول ناطحة سحاب في دبي، أي مركز دبي التجاري العالمي المؤلّف من 38 طابقاً. لقد توقّع كثرٌ أنه مجرد مشروع آخر لا قيمة له، ولكن الشيخ راشد أثبت مرةً أخرى أن المشككين بحلمه على خطأ. كان شعاره «علِّ البنيان وسوف يأتون»، وقد جاؤوا بأعداد كبيرة.
لقد أورث الشيخ راشد أبناءه الشجاعة لتحقيق إنجازات تبدو مستحيلة. فبقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، أصبحت دبي أول إمارةٍ في الخليج تبني قطاعاً سياحياً مزدهراً بدعمٍ من المطار الموسَّع، وإنشاء شركة طيران الإمارات في دبي، ناهيك عن الحملات الدعائية والفعاليات الرياضية الدولية.
من أعظم إنجازات الشيخ راشد، الوقوف إلى جانب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لتأسيس اتحاد الدولة التي رفرف علمها لأول مرة في 2 ديسمبر 1971.
يعود إلى هذا الرجل الاستثنائي الفضل في إرساء المرتكزات الراسخة لإمارة دبي. فقد قاد دبي في خضم التجاذبات بين النزعة التحديثية والتقاليد القديمة، وعلّمنا أن نُبقي رؤوسنا مرفوعة ونشعر بالاعتزاز بثقافتنا الإماراتية.
ندين له بالكثير لكنه لم يطلب منا الامتنان، كل ما أراده هو سعادتنا. لا يمرّ أسبوعٌ من دون أن أفكّر فيه وأتذكّر الأيام الغابرة الجميلة وأحياناً الأزمنة الصعبة التي عرفتها دبي. علّمنا الشيخ راشد أن الموقف الإيجابي هو سلاحنا الأعظم، لأنه القوّة التي يمكن أن تُسقط مختلف الحواجز مهما بلغ حجمها.