لكبيرة التونسي (أبوظبي)
حراك مجتمعي لافت يشهده مهرجان الحصن في أبوظبي الذي تتواصل فعالياته حتى 4 ديسمبر الجاري، ويشكل بعروضه التمثيلية الحية متحفاً مفتوحاً، يجذب الزوار بأعداد متزايدة لما يجسده من تنوع وثراء. والمهرجان الذي تنظمه دائرة الثقافة والسياحة ـ أبوظبي يقدِّم تجارب فريدة ويُتوَّج كعنصر أساسي في أجندة الثقافة بدولة الإمارات، حيث يحتفي بتراثها وحرفها اليدوية ويعرضها إلى جانب الأنشطة الفنية المعاصرة، بما ينسجم مع الرؤية المتمثِّلة في ترسيخ مكانة الإمارة كوجهة مميزة في مختلف المجالات.
ثراء فعاليات وعروض أداء تُعيد إحياء التراث وتجعل الزوار ينخرطون بتفاعل في صور حيّة تشكِّل جزءاً من الذاكرة الجماعية لأهل الإمارات عن ممارسات الأسلاف التي لا تزال حاضرة إلى اليوم، ضمن إصرار وطني للحفاظ على العادات والتقاليد. وتجسِّد بيئة الصحراء في المهرجان عدة مفردات من الحياة قديماً، وتكشف صناعات أهلها وما امتلكوه من مؤهلات لاستثمار مواد الطبيعة وتطويعها لمساعدتهم على العيش وتحدي قساوة المناخ والتضاريس. وكلها ملامح تؤكد أن الإنسان الإماراتي أبدع منذ القِدم وتجاوز كل ما واجهه من ظروف. ومن الصور التراثية التي ارتبطت بالصحراء ويستعرضها مهرجان الحصن، «مسيرة الجِمال» أو «القافلة» التي تروي قصص الترحال لأهل الصحراء ولاسيما أيام «القيظ».
المؤونة
وقال الفنان محمد البلوشي الذي يرافقه زميله في قيادته لـ «القافلة» في مشهد تمثيلي، إن الجِمال كانت وسيلة مهمة جداً في التنقل، وكانت تشق طريقها في بداية «القيظ» متجهة نحو المزارع، وغالباً ما تسلك طرقاً معروفة تتميز بالدلالة والمياه العذبة والرعي. وأشار إلى أن معظم القوافل في أبوظبي كانت تتجمع في منطقة بين الجسرين محملة بالمؤونة للتوجه إلى مختلف المناطق الزراعية، مثل ليوا وواحات العين، لافتاً إلى أن قسماً منها يكون محملاً بالبضائع، بينما القسم الثاني يحمل النساء والأطفال.
الفخر والشجاعة
وتُتيح البيئة الصحراوية التعرف على مهارة الأجداد الذين أدركوا الصفات الاستثنائية للعديد من الطيور، وتعلموا تسخير مهاراتها الفريدة في الصيد، بحيث تعتبر الصقارة رياضة موقرة في الإمارات، وترمز إلى قيم الشجاعة والشرف والنبل، وهي من المفردات الأساسية في البيئة الصحراوية. وذكر عبدالله غريب هلال الحمادي أن «الحضيرة» التي تُعرض فيها بعض الصقور، تسمح للزوار بالاقتراب من هذه الطيور والتقاط الصور التذكارية معها والتعلم كيف اكتسبت أهمية بالغة في دولة الإمارات، لافتاً إلى أن تربية الصقور وترويضها وممارسة هواية الصقارة ترتبط بالقيم النبيلة والمروءة والشجاعة والفخر. وكلها صفات تتسم بالقيم العربية التي ارتبطت بهذه الرياضة، بالإضافة إلى صلتها بالحفاظ على الطبيعة والصيد المستدام، وروح الصداقة التي تنشأ بين الصقّارين.
كرم الضيافة
هنا في ركن «القهوة العربية» في مهرجان الحصن يجلس الشاب سلطان محمد الدهماني في «الحضيرة»، وأمامه مجموعة من الدِلال ليقدم للزوار القهوة على أنغام الربابة و«التغرودة» وأنواع الشعر التقليدي، وهي من العناصر التراثية المفضلة في الثقافة الإماراتية. وتؤكد هذه المشهدية أن طقوس تقديم القهوة العربية، بأصولها وآدابها، لا تزال مستمرة حتى اليوم وتحظى باهتمام الشباب الذين يصرون على ممارستها على أفضل وجه.
وذكر الدهماني أنه يقوم بتحضير القهوة العربية بكل فخر واعتزاز، وهي مهارة ورثها عن أجداده، وسعيد بالتعريف بها في المعارض والمهرجانات، موضحاً أن مجالس القهوة كانت تعتبر في السابق مجالس اجتماعية تناقَش فيها القضايا وتحل فيها الكثير من المشكلات.
وتمتد جذور تقاليد القهوة العربية في نسيج مجتمع الصحراء من خلال أدواتها، وهي مرادف للكرم والجود والقيم الأصيلة. وأوضح الدهماني أن تقديم القهوة، يتم وفق طقوس خاصة، فمن آداب التقديم أن تمسَك الدلة باليد اليسرى والفناجين في اليمنى وأن يظل مقدِّم القهوة واقفاً طوال الجلسة، ويبدأ بتقديم القهوة للأكبر سناً في المجلس أو الأكبر منصباً، وإذا اكتفى الشخص من كمية القهوة المقدمة، يهز الفنجان في دلالة على أنه اكتفى، بينما إذا لم يفعل ذلك فمعناه أنه يرغب بالمزيد من القهوة.
مستلزمات العيش
في ساحة مهرجان الحصن تلفت الانتباه مجموعة من السّيدات يتجولن في ساحاته، مرة يرافقن «القافلة» ومرات يتردّدن على السوق، ويتابعن مشهديات تمثيل حي عن كيفية جلب المياه في السابق والتي كانت عنصراً أساسياً لاستمرارية العيش في الصحراء. وتقدِّم النساء مشهداً من المنطقة التاريخية المتمثلة في قصر الحصن، والتي كانت تتمتع بغزارة المياه العذبة، ولطالما شكِّلت نقطة جذب للأولين الذين أتوا من بعيد للاستقرار في محيطه. وقالت الفنانة فاطمة حسن، التي ترافقها الفنانة أشواق في تقديم مشهد جلب المياه من «الطوي»، إن المرأة الإماراتية لعبت قديماً دوراً مهماً مع الرجل في استقرار الأسرة، لتوفير مستلزمات البيت وإتقان الصناعات والرعي وسواها.