الأحد 20 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 33 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

ابن قتيبة.. الفقيه الأديب

الرسمة متخيلة من وحي الموضوع ولا تمثل الشكل الحقيقي للشخصية
2 مايو 2020 00:17

حسين معلوم, كاتب وباحث مصري

«نحتاج إلى لحظة تأمل في تراثنا الحضاري الإسلامي.. لحظة ندرك من خلالها هذه اللمحات المضيئة التي ساهم بها العديد من المفكرين العرب والمسلمين من خلال علمهم وأفكارهم، لا لكي نرتكن إليها، ولكن من أجل الاسترشاد بها في الاستعداد للمستقبل والتميز في الحاضر، والانطلاق من المفيد منها أولاً، ونتائج منجزات العصر ثانياً».

ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (213 - 276 هـ)، أحد أعلام القرن الثالث الهجري، وهو عالم وفقيه، وناقد وأديب لغوي، عاش في عصر الدولة العباسية، وعاصرها وهي في أوج قوتها، وعاش الصراع بين الأجناس العربية وغير العربية، هذا، فضلاً عن أنه عاصر صعود وهبوط الفكر الاعتزالي، وقد أثرت هذه الأحداث كلها في تفكيره ورؤيته، حيث ظهر ذلك بوضوح في مؤلفاته.
وقد تعددت مؤلفات ابن قتيبة، وكتبه، كما تعددت موضوعاتها، حيث اشتملت على مواضيع الدين والأدب واللغة والتاريخ، ومن أشهرها: تأويل مشكل القرآن، وغريب الحديث، وتفسير غريب القرآن، والرد على القائل بخلق القرآن، إضافة إلى كتابه «الإمامة والسياسة».
والملاحظ على ابن قتيبة أنه اعتمد على القرآن الكريم كـ «شاهد أول» لإثبات صحة ما يقوله ويذهب إليه.
وقد أبان عن منهجه هذا، فقال: «ولست أدري كيف هذا، ولا وجدت عليه شاهداً من الكتاب، ولا من الحديث، ولا من قول العرب، والله عز وجل يقول: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ)، «سورة الصافات: الآية 6».
والواقع، أن استشهاد ابن قتيبة بالكثير من آيات التنزيل الحكيم، إنما يأتي في إطار المحاولات التي قام بها، على امتداد كتبه، لبيان الكثير من القضايا اللغوية والصرفية والبلاغية، وغير ذلك من الظواهر التي عالجها في كتاباته، التي بلغت - حسب رأي البعض - ثلاثمائة مصنف.
وقد شاع لدى الكثيرين هجوم ابن قتيبة على القراء، إلا أن أصل هذه الدعوى ما ذكره محمد بن مطرف «صاحب القرطين»، حينما عمد إلى جمع كتابي ابن قتيبة «تفسير غريب القرآن»، و«تأويل مشكل القرآن»، فقام بحذف بعض صفحات هذا الأخير مُعللاً ذلك الحذف لما فيه من هجوم على القراء، وطعن على «حمزة» (حمزة ابن حبيب الزيات الكوفي)، أحد القراء السبعة.
والحقيقة التي لا خلاف عليها أن طعن ابن قتيبة على بعض القراء في عصره، إنما كان سمة لأهل زمانه في ذلك الوقت، فقد هاجم القراء قبله أستاذه السجستاني، وسيبويه والفراء، وسواهم من أهل اللغة، وذلك من جراء تمسكهم بقياساتهم التي وضعوها، ولم تسلم منها القراءات القرآنية، إلا أن ابن قتيبة، كان قد أوضح أن الاختلاف في القراءات يعود إلى مسألة ال «سبعة أحرف»، وبيَّن أنها «سبعة أوجه» من «اللغات» متفرقة في القرآن.
وفي هذا يقول: «وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات، فوجدتها سبعة أوجه»، تدور معظمها حول: «الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركة بنائها»، إضافة إلى: «أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها»، أو: «أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير».
ورغم الأهمية التي تميزت بها كتب ابن قتيبة، حيث يقول عنه كارل بروكلمان في دائرة المعارف الإسلامية: «إن مصنفات ابن قتيبة قد تناولت جميع معارف عصره».. ورغم أهمية ابن قتيبة، من الناحية اللغوية في تناول القرآن الكريم، والقضايا الخلافية التي شهدها عصره، والعصور اللاحقة، مثل: إشكالية الترادف في اللغة، كمثال.. رغم هذا وذاك، يأتي كتابه «الإمامة والسياسة»، ضمن أهم كتاباته، من حيث إنه من أقدم الكتب التي تتناول هذه المسألة من منظور «المذهب السني»، بل وبمنهجية «أهل السنة» الأوائل.
وبالرغم من الشكوك التي تحوم حول صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة، وبالرغم من الهنات وبعض الأخطاء التي سجلها عليه الباحثون المختصون، رغم هذا وذاك، فإنه يبقى أول محاولة «سنية» فيما يخص الحديث عن مسألة «الإمامة»، بمنهجية: الرواية والإسناد والتعبير عن الرأي من خلال عرض «الوقائع»، أي: بمنهجية «أهل السنة».
أضف إلى ذلك، أن الكتاب، وإن كان محكوماً من داخله بمنطق الرد على الشيعة، إلا أنه، في الوقت نفسه، يعكس موقف أحد أعلام الفكر الإسلامي، من ذوي المنهجية السنية، من دولة أهل الخلافة، يوم أن كانت تحت نفوذ المعتزلة.
ولعلَّ من بين أهم الملاحظات التي ترد بشأن هذا الكتاب، أنه كُتِب بعد خلافة هارون الرشيد، وقبل عهد المتوكل الذي: «أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، والترك لما كان عليه الناس أيام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث، وإظهار السنة والجماعة»، وذلك كما قال عنه المسعودي في كتابه: «مروج الذهب ومعادن الجوهر» (توفي هارون الرشيد في سنة 193 ه، وتولى المتوكل الخلافة في سنة 232 هـ).
الملاحظة المشار إليها، ربما تتبدى بوضوح من خلال النص التالي، الذي يقدمه ابن قتيبة، في نهاية مؤلفه.. يقول: «قد تم بعون الله تعالى ما به ابتدأنا، وكمل وصف ما قصصنا من أيام خلفائنا وخير أئمتنا، وفتن زمانهم وحروب أيامهم، وانتهينا إلى أيام الرشيد ووقفنا عند انقضاء دولته، إذ لم يكن في اقتصاص أخبار من بعده، ونقل حديث ما دار على أيديهم وما كان في زمانهم، كبير منفعة ولا عظيم فائدة. وذلك لما انقضى أمرهم وصار ملكهم إلى صبية أغمار غلب عليهم زنادقة العراق، فصرفوهم إلى كل جنون وأدخلوهم إلى الكفر، فلم يكن لهم بالعلماء والسنن حاجة، واشتغلوا بلهوهم واستغنوا برأيهم».
ليست الملاحظة، إياها ( أن الكتاب قد كتب بعد خلافة هارون الرشيد وقبل عهد المتوكل)، هي ما يتبدى بوضوح من خلال هذا النص، فقط.. ولكن، أيضاً، يتبدى بوضوح أن المؤلف سني متشدد، وأنه يعنى بـ «زنادقة العراق»: المعتزلة.
أضف إلى ذلك، أن ما يلفت النظر في كتاب «الإمامة والسياسة»، ويتبدى بوضوح من خلال النص، منهجية ابن قتيبة في التعبير السياسي. إذ، إن صاحب «الإمامة السياسة»، يسكت تماماً عن عهد النبي (عليه الصلاة والسلام)، ليبدأ مباشرة بسرد الروايات التي تُبرِز «فضل أبي بكر وعمر»، ثم ينطلق في عرض الأخبار والروايات التي تتعلق بالخلفاء: من أبي بكر إلى هارون الرشيد.
في إطار هذه المنهجية، في التعبير السياسي، يشتمل منطلق ابن قتيبة، أيضاً، على «استخلاف رسول الله (علية الصلاة والسلام) أبا بكر.. وذكر السقيفة وما جرى فيها».
فمن جهة، يؤكد ابن قتيبة أنه ما دام النبي قد استخلف أبا بكر، في الصلاة نيابة عنه، والصلاة هي «الإمامة الصغرى»، فإن ذلك يعني أنه يشير على أصحابه أن يولوه الخلافة، أي: «الإمامة الكبرى».
ومن جهة أخرى، يشير صاحب «الإمامة والسياسة» إلى ما أسفر عنه النقاش في سقيفة بني ساعدة، من مبايعة أبي بكر، مؤكداً على أن هذه النتيجة هي الحقيقة التاريخية التي لا يمكن أن يتطرق إليها الشك فيما يخص هذا الاجتماع الشهير. والأمر الواضح، بخصوص هاتين الجهتين، أن ابن قتيبة إنما حاول جاهداً أن يؤكد بأن الخلافة («خلافة» أبي بكر.. أي: تولي عمر الخلافة بعد أبي بكر)، كانت قد تمت بالاختيار، وبإجماع الصحابة، وأن المناقشات - التي تمت في اجتماع السقيفة - تناولت كل شيء، حتى احتمال: «منا أمير ومنكم أمير».
وقد كان ابن قتيبة، بهذا، هو واضع اللبنة الأولى في الأساس التي اعتمد عليه أهل السنة في مسألة: «أن الإمارة بالاختيار»، ليأتي بعد ذلك الشافعي، واضع أصول الفقه، ويحدد الأصول في أربعة، هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وفي مسألة «الخلافة»، سوف يصبح الإجماع والقياس هما اللذان سوف تُشيد عليهما نظرية «أهل السنة» في الخلافة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض